لا تعدّ توقيفات مكتب "مكافحة الجرائم المعلوماتية" في لبنان خارجة عن سياق "الدولة البوليسية". فلبنان، الذي يزداد فيه "عنف السلطة"، المتمثلة بمؤسساتها التنفيذية، بدءًا من الشرطة ومرورًا بالجيش، ووصولًا إلى أجهزتها الأمنية "المخفية"، يتطبع بأعنف الأساليب البوليسية المتبعة، على الرغم من "الصورة الناصعة"، التي يقدمها عن نفسه كدولة "مدنية" تتربع على بحر الأبيض المتوسط، وسط خراب الدول الدكتاتورية.
يمثل مكتب مكافحة الجرائم الإلكترونية صورة الدولة البوليسية في لبنان
وإن كان هذا البلد الصغير، الذي يعدّ مهد التشريع، استخدم "صنعته"، في تحويل القوانين إلى أسلاك شائكة حول رقاب المواطنين، يتميز بتداول السلطة، إلا أن نموذجه الديمقراطي، يخفي دولة سوداء، تمارس الإخفاء والخطف والعنف الجسدي واللفظي، بحجة حماية "الأمن الداخلي" و"هيبة الدولة" والأهم، حماية "الأرزة" الخالدة من أي تعرض. فضلًا عن ملاحقته "الأغراب"، بذهنية عنصرية مقيتة.
نعم، دولة البوليس، التي يمارس "جهاز الشاباك" (من باب السخرية)، فيها عنفًا مكررًا، على ناشطين وصحافيين، وشبان صغار السن، فقط لقولهم ما يريدونه على مواقع التواصل الاجتماعي، هي الدولة نفسها التي تصنع "أكبر صحن للحمص"، وتقدم للعالم وزراء عنصريين وطائفيين ومصدّري صكوك غفران لقتلة الأطفال في سوريا، وتقف في ظهر "دويلة" حزب الله.
اقرأ/ي أيضًا: لبنان.. دولة بوليسية تحت الطبع
النقطة الفاصلة، للدولة البوليسية، ليست في ازدياد عدد انتهاكاتها، بل في "ريبتها" المتفاقمة من "خدش اللبننة" والتعرض لها. أي "قذف" الدولة وحماة ديارها (من السارقين المتناوبين على سلطاتها تواترًا)، بأوصاف تراها دولة البوليس، "انتهاكًا" في صلب الأمن القومي. متناسية، التهديدات الأمنية القائمة والمتربصة بحياة اللبنانيين اليومية، ومتجاهلة القيام بدورها في ملاحقة "إرهابيين" مفترضين وسارقي المؤسسات، و"مافيات" المال، المحميين منها ومن أجهزتها. وهل هؤلاء يهددون "الأرزة" الخضراء؟، لا. بل ربما باسل الأمين، الشاب المليء بشهوة التغيير والرافض لعنصرية اللبنانيين تجاه اللاجئين السوريين، هو "تهديد" موصوف للبنان الكيان.
ويمتلك "جهاز الشاباك" اللبناني، وهو الإحالة الساخرة لوصف مكتب "مكافحة الجرائم الإلكترونية"، قدرة سحرية على التفوق أحيانًا على أقرانه من الأجهزة الأخرى المتمرسة. فهو بنشأته في العام 2006، يستضعف المواطنين العاديين، بحجج واهية، مستخدمًا مساحاتهم الافتراضية لابتزازهم والتحريض ضدهم أحيانًا، لا بل إقحامهم في "الترويع" والتعذيب النفسي، لما يعرف بـ"القهر الأمني"، وهو أسلوب يستمد أصوله من النازية.
تستمد دولة البوليس سلطتها من زمن الوصاية والتنسيق الأمني بين المخابرات المشتركة "اللبنانية-السورية"
الدولة البوليسية في لبنان ارتفع رصيدها، مع نشوء مكاتب المخابرات، وتوسع نشاطاتها مع زمن الوصاية السورية، حين كان لأصغر ضابط الصلاحية في "كسر عنق" أهم موظف في الدولة. فقط لأن القمع سيجد مبرراته في دولة "الكفوف السوداء" الناعمة، والتي تنسق فيما بينها بما عرف يومًا ما بـ"مكتب التنسيق اللبناني-السوري". ويبدو أن سوزان الحج حبيش، القائمة اليوم على رأس مكتب الجرائم الإلكترونية، تتعامل بذهنية "مكتب التنسيق" في قمع الشباب والناشطين.
وآخر طلعاتها توقيف باسل الأمين، لنشره "بوستًا" على "فيسبوك"، وجدته الدولة اللبنانية تحقيرًا لهويتها وكينونتها وآلهتها وفكرتها المقدسة. وهو بوست لا يتعدى عن كونه "فشة خلق" من شاب تتنازع فيه رغبة التعبير. قال ما شاء قوله، بجملتين فقط: "صرماية اللاجئ والعامل والمواطن السوري بتسوى جمهوريتكم وأرزكم ولبنانكم ويمينكم واستقلالكم وحكومتكم وتاريخكم وثورتكم ورؤساؤكم شو فهمنا؟".
اقرأ/ي أيضًا: "الإرهاب والكباب" في وزارة البيئة اللبنانية
"الصرماية" التي دافع عنها الأمين، أغاظت حبيش ومجموعتها وبالطبع، أزعجت "الكيان" الأمني كله، الذي صب جهده لتوقيف الشاب وجره إلى أقبية تحقيقاته. فبدلًا من أن تحول حبيش جهودها مع فريقها "المتلصص"، إلى حسابات "داعش" و"النصرة" و"شبيحة" النظام السوري و"حزب الله" و"الحشد الشعبي"، الفاعلة في لبنان، وعلى شبكته العنكوبتية والمتحركة أفقيًا وعاموديًا والمتأهبة، وجهت علمها لـ"شد أذن" الشاب اليافع، وبالطبع فهو بعقليتها الأمنية أكثر تهديدًا من "جحافل" الجيوش الإلكترونية الطائفية والمافيوية والميليشوية والعنصرية الموجودة.
والدولة اللبنانية، التي تستحدث أجهزة قمعها، وجدت مع نهاد المشنوق (وزير الداخلية)، صيغها الجديدة. فمع "قهر" الناشطين في الحراك المدني وسلسلة الاعتقالات التي طالتهم، عبر "شبكة" المشنوق الممتدة من فرع المعلومات وأجهزة الأمن الداخلي ومكافحة الشغب.
الملاحقات والانتهاكات تمارس باسم الدولة وحماية المواطن في لبنان
كان مكتب "جهاز الشاباك"، يعمل على الدوام على "التربص" بالناشطين والمواطنين العاديين لملاحقتهم وتحويلهم إلى التحقيق. إن لم نقل إلى "سجون"، تمارس التحقيقات بلغة العنف، هدفها "كم الأفواه"، وينصاع هذا المكتب إلى "أوامر" حزبية، ويتطابق في سلوكياته مع مكاتب المخابرات السورية، التي تأخذ "الضحية" وتخفيها عن أهلها وأصدقائها، وتحقق معها في جو مليء بالغموض والتهديدات التي تكفل في النهاية، استمرارها بحجة "حماية البلد" من الجرائم الإلكترونية.
لا بد من إعادة النظر، جديًا، على الصعيدين القانوني والحقوقي، في عمل هذا المكتب. والمباشرة في إعداد صياغة لبنود مهماته، فليس من المعقول الإبقاء على سياسته "القمعية" هذه، بذهنية "لكم لبنانكم ولنا لبناننا"، فهذا "اللبنان" الغارق بالفساد والنفايات والقتل والعنف والإجحاف والذل، لم يعد يمثله إلا صوت اسمه "باسل الأمين".
اقرأ/ي أيضًا: