لم يعد يفصلنا الكثير عن انطلاق كأس العالم لكرة القدم بنسختها الـ22، في بطولة استثنائيّة بكلّ المقاييس، هي الأولى التي تستضيفها منطقتنا العربيّة، وأوّل بطولة في تاريخ المسابقة الممتدّ لأكثر من تسعين عامًا تحصل في فصل الشتاء، حيث تجري وقائعها في منتصف الموسم الكروي، ما يعني أنّ نجوم المستديرة سيكونون في أوج عطائهم الكروي.
ولأنّ كرة القدم كأي نشاط حضاري يرتبط بسلسلة تراكميّة من العطاء، يمثّل الإلمام بتاريخ كأس العالم منذ نسخته الأولى حاجة ملحّة في لحظات العدّ العكسي التي نعيشها بانتظار مونديال قطر 2022، حيث يعتبر تاريخ هذه البطولة الأكثر شعبية في كوكبنا بمثابة ذاكرة مشتركة كوّنت وعيًا جمعيًا واحدًا لعشّاق الرياضة.
تطوّرت كرة القدم كثيرًا منذ ما يقارب قرن من الزمن حتى عصرنا الحالي، ندرت المواهب، ولم تعد تحتفظ بفطرتها المعهودة، فتفوّق الأغنياء على الفقراء، وضاعت المواهب الحقيقية في وسط الزحام، ومع ذلك لم تفقد هذه الرياضة أبرز أسباب شهرتها، ونحكي عن الشغف الذي بقيت قِبلة أولى لكلّ مريد له.
عايشت كأس العالم منذ نشأتها العديد من الأحداث المفصليّة، تأثّرت وأثّرت بها، كوارث إنسانية كالحروب والانقلابات العسكرية، وأخرى طبيعية كالزلازل، تطوّرت مع الثورة التكنولوجية، وكانت شاهدة على بزوغ دول واضمحلال أخرى، وحوّلت أتراح الشعوب إلى أفراح، وفعلت العكس في كثير من الأحيان.
حينما نتحدّث عن تاريخ كأس العالم لا نقصد بذلك الأحداث الكرويّة التي تحصل مع صافرة انطلاق المباراة الافتتاحية لنسخة ما، حتى صافرة ختام المباراة النهائية، بل السياقات السياسية والظروف الاقتصادية والاجتماعية، والأحداث الإنسانية التي رافقت هذه البطولة أو تلك، ويعني هذا الملف الحديث عن تاريخ كأس العالم بداية من النسخة الأولى في عام 1930، حتى النسخة الأولى من القرن الحالي التي جرت في كوريا الجنوبية واليابان عام 2002، ويفيض بالكثير من المعلومات والإحصاءات، كذلك الأرقام القياسية التي ما زالت راسخة وبانتظار كسرها مع بداية مونديال قطر 2022.
كأس العالم 1930:
عانت فكرة إقامة بطولة لكرة القدم يتنافس عليها كافة الفرق في الأرض كثيراً قبل أن تصبح واقعاً، إلى أن وافق الاتحاد الدولي لكرة القدم في عام 1928 على إقرار البطولة التي سمّيت بـ "كأس النصر"، جائزتها كانت كأس النصر الذي تغيّر لاحقًا اسمه لكأس جول ريميه، وهو المؤسس الحقيقي للبطولة.
وبعد طول انتظار، تم إجراء البطولة في الأوروغواي التي احتفلت بمرور 100 عام على استقلالها بأفضل طريقة، حينما تفوّقت على الأرجنتين في أوّل نهائي مونديالي، بنسخة حفلت بالكثير من الأحداث الفارقة التي لا تخلو من الطرافة.
كأس العالم 1934:
استضافت إيطاليا النسخة الثانية من كأس العالم، وفيها حشد الزعيم الإيطالي بينيتو موسيليني طاقات بلاده للاستفادة من كأس العالم 1934 كدعاية لحكمه الفاشي، وحرص أن تفوز إيطاليا بالكاس مهما كانت الوسائل، وشهدت هذه البطولة مشاركة مصرية هي الأولى في تاريخ العرب بكأس العالم، قبل أن تظفر إيطاليا المضيفة بأول ألقابها المونديالية.
كأس العالم 1938:
سيطرت أجواء شديدة التوتّر على الوضع العام، قبيل انطلاق النسخة الثالثة من كأس العالم في فرنسا عام 1938، أوروبا كانت على أبواب حرب عالميّة ثانية، وأسبابٌ أخرى أبرزها امتعاض دول أمريكا اللاتينية، أسفرت عن حالات انسحاب كثيرة من المونديال، وخلاله تأثرت أرضيّة الملعب كثيرًا بالظروف السياسة، ورغب الجميع بإحراز اللقب، وحشد وسائل الترغيب والترهيب كافّة لتحقيق لذلك، لتظفر إيطاليا باللقب الثاني، وتنجو تشكيلة الآزوري من مقصلة موسوليني.
كأس العالم 1950:
طوى سكان العالم صفحة دموية حصدت أكثر من 78مليون قتيل في كوكب الأرض ورموها جانبًا، حينما انتهت الحرب العالمية الثانية، وكان من أبرز معالم عودة الحياة هو إقامة كأس العالم 1950، والتي استضافتها البرازيل وقدّمت فيها مستويات رائعة، فانتشرت الأفراح في كلّ البلاد التي أصبحت تفكّر بطريقة مثاليّة للاحتفال برفع كأس العالم، قبل أن تتحوّل تلك الكرنفالات إلى كارثة كرويّة بكلّ المقاييس.
كأس العالم 1954:
مثّلت كأس العالم 1954 التي أقيمت في سويسرا محطة فارقة في تاريخ اللعبة، فبرزت ألمانيا الغربية المنهكة من تبعات الحرب العالمية الثانية، وساهمت تفاصيل صغيرة كثيرة بمنحها لقبها الأوّل، تفاصيل لو غاب واحدًا منها، لتوّجت المجر بالبطولة، ففي كلّ نسخ كأس العالم، لم يكن هنالك فريق مرشّح لنيل البطولة كما كانت المجر في 1954، لكنّ إرادة الألمان بقيادة لاعبها الناجي من معتقلات الاتحاد السوفييتي، نجحت في تحقيق المعجزة، ليصبح الفوز بالمونديال أحد أبرز معالم النهضة الألمانية بعد خسارة الحرب العالمية الثانية.
كأس العالم 1958:
هرب أكثر نجوم فريق المجر من بلادهم بعد قمع السوفييت لثورة شعبية اندلعت في بلادهم، ما أسفر عن انهيار الفريق المجري الأسطوري، وفشلت منتخبات كبرى في التأهّل لمونديال السويد 1958، وهنا ظنّ الكثيرون أن البطولة ستكون دون مستوى المأمول، لكن تبيّن لهم لاحقًا أن ما قبل كأس العالم 1958 ليس كما بعده، في هذه النسخة ظهر بيليه للعالم، ووفى بوعده لوالده مانحًا البرازيل بطولتها الأولى.
كأس العالم 1962:
"لا نملك شيئاً ولكن نريد تنظيم كأس العالم لتحسين أحوالنا الاقتصاديّة"، بهذه الكلمات البسيطة لكارلوس ديتبورن نجحت تشيلي في إقناع أعضاء الفيفا بالتصويت لها على حساب الأرجنتين في لندن عام 1956، من أجل استضافة كأس العالم 1962، لكنّ البلاد تعرّضت لكارثة غير متوقّعة عام 1960، حينما هزّها أعنف زلزال سُجّل على سطح الأرض.
ومع ذلك رفض رئيس ملف الاستضافة كارلوس ديتبورن رفع الراية البيضاء، فعمل والحكومة التشيلية على جعل منافسات كأس العالم فرصة للنهوض بالبلاد بعد الكارثة التي أودت بحياة الألوف، ودمّرت الكثير من البنى التحتية، كذلك تسبّب فيضان "تسونامي" أعقب الزلزال بغرق مناطق شاسعة في تشيلي، ورغم كلّ ذلك نجحت تشيلي في تهيئة نفسها للحدث، لكنّ الضربة الأخيرة أتت حينما كارلوس ديبتورن نفسه لأزمة قلبية قبل تحقيق حلمه بشهر واحد فقط، أدّت لوفاته وهو بعمر الـ38 سنة فقط.
كلّ هذه الظروف المأساوية واجهت إصرارًا من تشيلي على تقديم كل ما لديها، من أجل النجاح بتنظيم الحدث العالمي، ونجحت بذلك عن جدارة، وكانت شاهدة على تألّق جارينشا اللافت، والذي قاد البرازيل لإحراز كأسها الثانية، فهو الوحيد في تاريخ اللعبة الذي طُرد في نصف النهائي وشارك في المباراة النهائيّة، مشاركة لم تحدث لولا تدخّل الرئيس البرازيلي وإقناع الفيفا بذلك.
كأس العالم 1966:
حظيت إنجلترا مهد كرة القدم بشرف تنظيم كأس العالم 1966، وكاد هذا الحدث أن يتحوّل إلى فضيحة لولا تدخّل كلب اسمه بيكلز وأنقذ الموقف، حيث شهدت هذه البطولة أفول نجم الجوهرة السمراء بيليه، وسطوع جوهرة سمراء أخرى تحمل اسم أوزيبيو، وأنهت إنجلترا الحدث بأبهى طريقة ممكنة، حينما تمكّنت من حمل كأس العالم للمرّة الأولى والأخيرة حتّى الآن.
كأس العالم 1970:
حفلت النسخة التاسعة من كأس العالم بالعديد من المفارقات العجيبة والحقائق الشيّقة، وامتلكت الحقوق الحصرية للعديد من الإنجازات الرياضيّة على الأصعدة كافّة، إذ شهد مونديال المكسيك 1970 بثاً تلفزيونياً ملوّنا لأول مرة، كما تم العمل في تحكيم المباريات بنظام البطاقات الملوّنة، وسُمح للفرق بإجراء تبديلين في المباريات، وفي نهاية البطولة احتفظت البرازيل بكأس جول ريميه للأبد.
كأس العالم 1974:
شهدت كأس العالم 1974 نهاية حقبة هيمنت بها البرازيل على كرة القدم، وولادة منظومات كروية بالغة الروعة كالفريق الهولندي الذي فشل بتحقيق كأس العالم، لصالح فريق أعلن نفسه وريثاً شرعيّاً للبرازيل على سيادة هذه اللعبة، ونحكي عن ألمانيا الغربية التي استضافت الحدث وتوّجت باللقب، في نسخة حوت الكثير من الأحداث الطريفة من جهة، والتفاصيل الصغيرة التي سبّبت تغيير تاريخ اللعبة من جهة أخرى.
كأس العالم 1978:
بعد فوز الأرجنتين بتنظيم البطولة، وقبل بدء المباريات بعامين، حدث انقلاب عسكري في الأرجنتين بقيادة الجنرال خورخي فيديلا، قُتل على إثره الرجل المشرف على ملف استضافة المونديال كارلوس عمر أكتيس، حاله كحال آلاف الأرجنتينيين، وأرادت سلطة الانقلاب أن تجعل من كأس العالم دعاية مجّانية لحكمها.
ظنّ الجنرال خورخي فيديلا أن حصول بلاده على كأس العالم سيعزّز مكانة نظامه السياسي في العالم، لكن السحر انقلب على الساحر، إذ تعرّفت الصحافة العالمية على مشكلة الأرجنتين وما يعانيه شعبها، وبدأت بنشر الكثير من المقالات التي فضحت ما ارتكبه فيديلا من قمع وتعذيب وقتل بحقّ أبناء شعبه، ورضخ الأخير للضغوط الدولية أخيراً، وأجرى إصلاحات في البلاد تنازل بها عن الحكم لاحقاً لصالح حكومة اختارها الشعب، فكانت كأس العالم 1978 بحق هي من أنقذ الشعب الأرجنتيني.
وما زالت الأقاويل تُثار عن أحقّية الأرجنتين بالوصول للمباراة النهائية من المونديال، بسبب ما عُرف بفضيحة البيرو، في نسخة عزف كثير من النجوم عن التواجد بها، وابتسمت أخيرًا لأصحاب الأرض بلقب هو الأوّل في تاريخ الأرجنتين.
كأس العالم 1982:
وصلت إيطاليا للدور الثاني من كأس العالم 1982 دون تحقيق أي فوز، وظفرت بالبطولة الثالثة في مسيرتها، بقيادة نجمها روسي الذي خرج من السجن ومنح بلاده الكأس الغالية، في نسخة استضافتها إسبانيا، وكانت شاهدة على فضيحة كروية طرفيها ألمانيا الغربية والنمسا، وضحيّتها منتخب الجزائر، هذه البطولة التي لمع فيها منتخب البرازيل كأحد أقوى الفرق وأمتعها في تاريخ المونديال، لكنّ بوصلة الألقاب لا تعترف بذلك دائمًا.
كأس العالم 1986:
لم يسبق أن ارتبطت نسخة في كأس العالم باسم لاعب بعينه، كما حدث مع كأس العالم 1986 الذي أقيم بالمكسيك، وارتباطه مع الأرجنتيني الراحل مارادونا، والذي فعل كلّ ما يمكن، وقاتل بالطرق المشروعة وغير المشروعة، من أجل قيادة بلاده لرفع الكأس الذهبيّة، في نسخة شهدت على أجمل هدف في تاريخ المونديال، وأبدع فيها المنتخب المغربي، والذي دخل التاريخ كأوّل منتخب عربي وأوّل فريق أفريقي يبلغ الأدوار الإقصائيّة.
كأس العالم 1990:
كان الدوري الإيطالي هو الأقوى على الإطلاق في العالم، وكان كبار نجوم كأس العالم 1990 يلعبون فيه، فيلقون تشجيعاً كبيراً من الإيطاليين، خصوصاً إذا ما لعبوا مع فريق بلادهم في ملعب ناديهم الأصلي، وهو ما زاد من متعة البطولة التي أقيمت في إيطاليا، ونجحت فيها ألمانيا الغربية في الظفر باللقب وكسر عقدة النهائي، إذ فشل رفاق بيكنباور في الفوز بكأس العالم بالنسختين السابقتين رغم وصولهم للنهائي.
كأس العالم 1994:
صنع المدرّب كارلوس ألبيرتو بيريرا المستحيل، وقاد البرازيل لحمل الكأس الرابعة في تاريخها على حساب إيطاليا، فقبل بداية كأس العالم 1994 الذي أقيم في الولايات المتحدة، أُجري استطلاع للرأي في البرازيل لتحديد توقّعات الجماهير وحظوظ بلادهم في المنافسة على اللقب، فتوقّع 10% فقط أن تفوز البرازيل بالبطولة، بينما شكّك 90% بقدرة المدرّب كارلوس ألبيرتو بيريرا على رفع الكأس.
لم تكن صدمة روبرتو باجيو وهو يهدر ركلته الترجيحية اللقطة الوحيدة البارزة في كأس العالم 1994، بل حوت النسخة الـ15 من كأس العالم عام 1994 العديد من الأحداث المؤسفة، أبرزها ما يُعرف بشهيد المونديال، وتورّط الراحل مارادونا بفضيحة منشّطات أنهت مسيرته اللامعة في تاريخ كأس العالم.
كأس العالم 1998:
ارتبطت النسخة السادسة عشر من كأس العالم بشكل كبير بزين الدين زيدان، فمونديال فرنسا 1998 هو خاصّ بذاك الرجل جزائري الأصل، والذي حقّق حلم بلاده في التتويج بأغلى لقب كرويّ لأول مرّة في تاريخها. كثيرة تلك التفاصيل والذكريات التي لم تغب عن أذهان عشّاق كرة القدم في العالم.
كأس العالم 2002:
كأس العالم 2002 هي أوّل نسخة تقاسم استضافتها دولتان، وأوّل بطولة مونديالية تقام في قارّة آسيا، حيث قدّمت الدولتان المستضيفتان كوريا واليابان مستويات كرويّة جيّدة، شاب بعضها الفضائح التحكيمية، والتي كان ضحيّتها منتخبات مرشّحة لنيل اللقب كإيطاليا وإسبانيا، فيما ودّعت الأرجنتين المرشّح الأبرز لنيل اللقب المسابقة من الدور الأوّل، ولم تكن البرازيل مرشّحة لنيل اللقب، لكنّ رونالدو العائد من إصابة أبعدته سنتين عن اللعب، فعل المستحيل وقاد بلاده لتتويج خامس بكأس العالم.