يتنافس المتنافسون في كل عام من أجل تحصيل أعلى الدرجات في معركة الثانوية العامة في مصر، وعلى رغم تدني مستوى التعليم المصري وخروجه من التصنيفات العالمية، وعلى رغم من ازدياد نسب البطالة وارتفاع مستويات التضخم للدرجة التي أصبحت الشهادات الجامعية بلا معنى ولا فائدة فعلية، وعلى رغم من تسريب الامتحانات في كل عام والشكوك حول أحقية أصحاب الدرجات العليا، يصر الأهالي على الضغط على أبنائهم خلال تلك المرحلة، وصرف الغالي والنفيس على الدروس الخصوصية ووضع الأبناء داخل معسكرات مغلقة وضغوط نفسية شديدة، وكأن كل الأحلام ستصبح حقيقة فور تحقيق التفوق الدراسي في المرحلة الثانوية.
نحتاج إلى تغيير النظرة الطبقية إلى الكليات باعتبار بعضها "كليات قمة" والأخرى كليات لباقي الطلبة الفاشلين
الأزمة تبدأ عندما يبدأ الأهالي في تهيئة الأبناء بهذا الشكل وصب كل تركيزهم على هذه المعركة الوهمية، فيتخيل الأبناء أنها بالفعل معركة مصيرية سيحققون كل أحلامهم من خلالها، ولكن الواقع المعيش يصدمهم في أول تجربة حقيقية بسوق العمل، فيفاجئهم بتدني مستوى الأجور وصعوبة الحصول على عمل في مجال دراستهم أو في أي مجال آخر، لتبدأ الأسئلة تدور في خلدهم عن أهمية السنوات الضائعة في دراسة أشياء غير مفيدة، وسهر الليالي على مواد نظرية لا قيمة فعلية لها.
اقرأ/ي أيضًا: تعرف إلى 5 من أغرب أسئلة الثانوية العامة في مصر
أذكر أنني كنت متفوقًا في أيام دراستي، ولكن تراجع مستواي بشدة في المرحلة الثانوية، كنت أرفض المذاكرة ولا أجد فيها متعة حقيقية ولا تحصيلًا معرفيًا يستحق التعب من أجله، لم يع أهلي تلك المشكلة وظلوا يضغطون عليّ ولكن ضغوطهم باءت جميعها بالفشل، وجاءت الصدمة الأولى بنتيجتي المتواضعة في الصف الثاني الثانوي، ضغطوا عليّ مرة أخرى من أجل التحصيل في السنة الأخيرة ومحاولة تعويض ما بالإمكان، إلا أنني ازددت عنادًا وإصرارًا على موقفي، وجاءت نتيجة العام الأخير صادمة أكثر بنتيجة أكثر تواضعًا وبرسوبي في مادة الفيزياء، تعاملوا مع الأمر ككارثة حياتية، وكصدمة في ولدهم النابغة، ولكني تعاملت مع الأمر بأنني رسبت في مواد غير مفيدة، وفي دراسة غير مجدية، وأخيرًا نجحت في امتحان الفيزياء في الدور الثاني بدرجة أقرب إلى الرسوب وتجاوزت المرحلة الثانوية.
يصور بعض الأهل لأبنائهم الثانوية العامة كمعركة مصيرية سيحققون خلالها أحلامهم، ولكن الواقع يصدمهم في أول تجربة بسوق العمل
ضغط أهلي من جديد من أجل دخول كلية الهندسة بالتعليم الخاص، ولكني أصررت على دراسة الإعلام، ودخلت بالفعل كلية الإعلام بالتعليم الخاص، وقدمت مستوى جيدًا في الدراسة بأقل مجهود يُذكر، وأصبحت خلال عامي الأول حديث الكلية، وازداد نشاطي بالأنشطة الجامعية، وانتخبت كرئيس لاتحاد الطلبة وممثلاً لهم أمام الإدارة، شاركت في مشاريع صحفية وإعلامية وتدربت بكبرى الصحف والمجلات، ليتحول مقت أهلي إلى رضًا وفخر بولدهم مشروع الكاتب الجديد.
كان أهلي أكثر مرونة في تقبلهم لقراراتي الشخصية عن باقي الأهالي الذين يجبرون أولادهم في أحيان كثيرة على دراسة مجالات لا يحبونها فيفشلون فيها تمامًا أو يتجهون إلى العمل في مجال مختلف بمجرد انتهاء الدراسة الجامعية، نحتاج إلى تغيير تلك النظرة الطبقية إلى الكليات باعتبار بعضها كما يُطلق عليها "كليات قمة" والأخرى كليات لباقي الطلبة الفاشلين، نحتاج لأن نصبح أكثر مرونة وتقبلاً لفكرة أننا جميعًا في وطن تعليمه فاشل بكل ما تحمله الكلمة من معنى، في بلد لا تحتل أي من جامعاته مركزًا من المراكز الخمسمئة الأولى لأفضل الجامعات العالمية.
اقرأ/ي أيضًا: "اهزم البوكليت ورمضان والسرير".. كيف تحصل على 98% في الثانوية العامة؟
يتزامن هذا المقال مع ظهور نتيجة الثانوية العامة، وهو ما دفعني لإثارة هذه النقطة من جديد، يؤسفني القول إن التعليم في مصر أصبح "تحصيلًا حاصلًا" وأن الشهادة الجامعية لا قيمة فعلية لها غير الوجاهة الاجتماعية، فهوّنوا على الأبناء، ولا تأخذوا الأمور على محمل الجد، ووفروا أموال الدروس الخصوصية في شيء أكثر نفعًا، واتركوا فرصة الاختيار للأبناء وافتحوا لهم أبواب الحرية، لا ترفعوا سقف طموحكم في بلد انهارت فيه كل الطموحات والأحلام، وأصبح الحلم الوحيد يتلخص في الهجرة إلى بلاد أخرى، لا طائل من ذلك الكفاح المزيف ومن تلك الجهود العظيمة، لا طائل من وراء تلك الأهداف الحياتية الواهية التي تزرعونها لأنفسكم، كونوا أكثر واقعية وقراءة للواقع ووجهوا جهودكم صوب علم حقيقي ينفع وصوب أهداف حقيقية غير تلك المزيفة، عيشوا الواقع الحقيقي ولا تصنعوا لأنفسكم واقعًا خياليًا تعيشون فيه وتضيعون فيه سنوات العمر الثمينة.
لا تقلق يا صديقي، طالب الثانوية العامة، إن رسبت أو حصلت درجات قليلة، فالجميع منّا في هذه الدولة سواء، اختر ما يناسب قناعاتك وصب جهودك في تلك الناحية، واترك المشتتات جانبًا، لا قلق إن رسبت في الكيمياء أو التاريخ أو الفيزياء، فمحدثكم راسب قديم، وها هو يكتب هذه الكلمات إليكم لعلكم تتعظون.
اقرأ/ي أيضًا: