لم تتوقف الخلافات المذهبية والصراع على السلطة بين السنة والشيعة منذ عهد علي بن أبي طالب، وليومنا هذا، إلا أنّه من المفترض أنّ الدولة الحديثة بشكلها الحالي لها عقد اجتماعي بين السلطة والشعب يُلزم السلطة الحاكمة بتفعيل مبدأ المواطنة بين الجميع على اختلاف أفكارهم ومذاهبهم، غير أن دولًا في عصرنا الحالي، تنأى بنفسها عن تطبيق المواطنة، وتمارس في المقابل قمعًا ممنهجًا على أصحاب الأفكار والمذاهب الأُخرى غير التي تتبناها السلطة، وعلى رأس تلك الدول المملكة العربية السعودية، التي تمارس قمعًا ممنهجًا وتنكيلًا واضحًا لأتباع المذهب الشيعي.
إعدامات تُؤجج الصراع
في بداية العام الماضي نفّذت السلطات السعودية أحكامًا بالإعدام في حق أكثر من 40 شخصًا على بتهم تتعلق بـ"الإرهاب"، كما نُفّذ حكم الإعدام على المعارض الأبرز لحكم آل سعود، نمر النمر، الزعيم الشيعي في مدينة العوامية بالقطيف. وكانت قد طالبت الأمم المتحدة ومئات المنظمات الحقوقية وحكومات دول عدة، بوقف حكم الإعدام الصادر بحق النمر، كما أعربت الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي من اشتعال فتيل المشاحنات الطائفية وزيادة التوتر داخل الأراضي السعودية، لكن السعودية أصرّت إلا انتهاك حقوق الإنسان بتنفيذ الإعدامات بدم بارد.
رفضت السلطات السعودية المطالبات بوقف انتهاكات حقوق الإنسان، بإصرارها تنفيذ حكم الإعدام بحق 40 مواطنًا شيعيًا
وكان الإعدام بمثابة الانتقام من الاحتجاجات الشعبية والمظاهرات التي بدأت في القطيف، أواخر عام 2011، وقادها نمر النمر، ومنذ ذلك الحين وتتعرض المحافظة للقمع والتنكيل بأهلها الذين يتبع غالبيتهم المذهب الشيعي، بالإضافة إلى الاشتباكات المباشرة بين قوات الأمن السعودي والمحتجين والأفراد المسلحين المحتمين بالمدينة والنشطاء الشيعة الذين تطاردهم قوات الأمن.
عقاب جماعي بالتهجير القسري
منذ ما يقرب من خمسين يومًا، وتحديدًا في العاشر من أيّار/مايو، بدأت قوات الأمن السعودي في حصار حي "المسورة" بمدينة العوامية، وبقوة السلاح دفعت بالجرّافات للبدء في هدم الحي القديم بمنازله التاريخية التي يُقدر أعمارها ما بين 100 إلى 400 عام. رفض الأهالي هذا القرار التعسفي، فنشبت اشتباكات بين قوات الأمن والأهالي المحتجين، وقع فيها مصابون.
اقرأ/ي أيضًا: الإعدام السياسي في إعلام السعودية وإيران
واستغرقت السلطات الأمنية السعودية في ممارساتها القمعية بالتهجير القسري للشيعة، وهدمت إحدى الأحياء التاريخية الهامة شرقي المملكة، تحت حجج تطوير الحي القديم، مدعيةً أن أصحاب المنازل المهدّمة، والذين اُخلوا قسريًا من منزالهم وحيّهم؛ تلقوا تعويضات عن منازلهم، وأن العنف المفرط، كان "الحل الوحيد لمماطلة الأهالي".
ولا يبدو أن السلطات السعودية تنتوي التراجع عن حملة العقاب الجماعي التي تمارسها ضد أهالي القطيف، فباتت النيران تفتح بشكل عشوائي، وبات صوت الرصاص معتادًا، ولم تقف عمليات الهدم على المنازل والممتلكات الخاصة، بل شملت مساجد وحسينيات الشيعة في المنطقة.
وعلى خلفية الكارثة الإنسانية المتمثلة في تدمير حيّ تاريخي وتهجير أهاليه قسريًا، دشّن مغردون على موقع تويتر وسم (هاشتاج) "#العوامية_تحت_الحصار" لفضح وتوثيق الجرائم المرتكبة من قبل السلطات السعودية، وكمحاولة أخيرة للاستغاثة المجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية.
الأمم المتحدة تندد بجرائم السعودية
أصدرت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، بيانًا في 24 أيّار/مايو الماضي، تطالب فيه السلطات السعودية بالتوقف عن عمليات الهدم والتهجير القسري، وأن تتوقف عن الممارسات التي تنتهك حقوق الإنسان.
وجاء في البيان، أنه "على الرغم من محاولاتنا المتعدّدة في التعبير عن قلقنا ومن سعينا الدائم للحصول على أيّ تفسير من الحكومة بشأن أعمال الهدم المخطط لها، يبدو أنّ الجرّافات وغيرها من آليّات الهدم بدأت في 10 أيّار/مايو، وبمساندة قوى عسكرية مسلّحة، هدم المباني والمنازل في الحيّ التاريخيّ، المسَوَّر، وفي أماكن أخرى من العوامية، مُوقِعةً جرحى وقتلى ومُكبِّدةً أماكن إقامة المدنيّين خسائر ماديّة".
نددت الأمم المتحد بعمليات الهدم والتهجير القسري التي اعتبرتها "محوًا لإرثٍ تاريخي وثقافي"، ووصفتها بالانتهاك الصارخ لحقوق الإنسان
وكان ثلاثة خبراء بالأمم المتحدة معنيين بالحقوق الثقافية والسكن الملائم والفقر المدقع، تابعوا ما يحدث في حي المسورة، صرّحوا بخطورة ما يحدث هناك، فقالت كريمة بنون، المقرّرة الخاصة المعنيّة بالحقوق الثقافيّة: "لقد اُحرقت مبانٍ تاريخيّة، واُلحقت بها أضرار لا يمكن تداركها، وذلك بسبب استخدام الجيش أسلحة مختلفة لإجبار السكان على الخروج من منازلهم ومن حيّهم، والهرب من شراك الموت".
اقرأ/ي أيضًا: العفو الدولية.. الرياض وأبوظبي تعبثان بحياة آلاف الناس
وأكّدت كريمة بنون أنّ عمليات الهدم هذه "تمحو أثر إرثٍ تاريخيٍ وثقافيٍ مَعْيوش، وهي انتهاكات صارخة لالتزامات المملكة العربيّة السعوديّة ضمن إطار القانون الدوليّ لحقوق الإنسان".
ومن جانبها قالت ليلاني فرحة، المقررة المعنية بالحق في السكن اللائق: "لقد هُجّر السكان، واضطر العديد منهم إلى الانتقال لمدن وقرى اُخرى. ويعيش البعض منهم مع أقارب لهم، والبعض الآخر فقد منزله وممتلكاته الشخصية ومصدر عيشه.
وأشار فيليب ألستون، المقرّر الخاص المعنيّ بالفقر المدقع وحقوق الإنسان، إلى أنّ "المؤسّسات العامة والخاصة، على غرار المدارس والمخازن والمراكز الصحيّة شُلَّت حركتها، ويبدو أنّ الحيّ بمجمله وقع تحت الحصار".
في سياق ألاعيب السعودية في المنطقة
باتت العلاقات السعودية مع دول المنطقة ملتبسة للغاية، إذ تسعى المملكة إلى مد أذرعها وفرض سيطرتها على المنطقة بالكامل وليس على حدود دولتها فقط، بخاصة وأنّ سيادتها تنتك بشكل شبه يومي على الحدود الجنوبية مع اليمن. وتتزامن ممارسات السلطات الأمنية في القطيف مع الحصار المفروض على قطر، والتي يأتي هو الآخر بالتزامن مع تصعيد التأزم بين السعودية وإيران، والذي وصل لحد تهديد محمد بن سلمان ببدء الحرب مع إيران من داخل أراضيها.
هذا كله من جهة، ومن اُخرى غير بعيدة عن السياق العام، تسعى السعودية حثيثةً إلى "نسج" علاقات وثيقة مع الاحتلال الإسرائيلي تمهيدًا لتطبيع كامل، مع تهيئة الرأي العام السعودي والعربي لهذه الخطوات، التي صرّح بها الجنرال السعودي المتقاعد أنور عشقي.
اقرأ/ي أيضًا: