لماذا ماتت السياسة في مصر طيلة أكثر من ستة عقود، من خمسينات القرن الماضي وحتى الآن؟ ولماذا تراجع الحراك السياسي حول العامين 2011 و2012، وعادت السلطة السياسية المصرية إلى المعادلة القديمة القائمة على "الإخصاء السياسي" للمصريين عمومًا، بالمعنى الرمزي والفرويدي، وكذا للأحزاب والجماعات السياسية المعارضة، بل والأغرب للموالين للنظام الحاكم؟
ماتت السياسة في مصر لأن النظام التسلطي الذي تأسس بعد تموز/يوليو 1952، ويسعي النظام الحالي لتكراره وربما تجاوزه، هو أقرب إلى نموذج حكومات الإدارة، التي تغلِّب الاعتبارات التنظيمية والإدارية والأمنية أكثر من الاعتبارات الخاصة بإدارة العمل السياسي التعددي بين قوى وجماعات سياسية وأيديولوجية متعددة، تعمل في إطار النظام السياسي ووفق قواعد واضحة للمنافسة السياسية أو الصراع الاجتماعي.
ماتت السياسة في مصر لأن النظام الحاكم أقرب النماذج لسلطات الإدارة، التي تُغلّب الاعتبارات التنظيمية على العمل السياسي التعددي
اللاتسييس كان السمت الرئيسي للنظام السياسي والدستوري في مصر الجمهورية، لأن قادة النظام جاؤوا من قلب المؤسسة العسكرية، واعتمادًا على خبراتهم العسكرية والتنظيمية، بمن فيهم بعض العناصر التي كانت ذات صلات ببعض القوى السياسية كالإخوان المسلمين أو الشيوعيين مثلًا. الغالبية الساحقة من "الضباط الأحرار"، باستثناء جمال عبد الناصر وقلة آخرين، لم يكن لديهم تكوين أو تصورات سياسية أو خبرات أو أخيلة أو نماذج سياسية للتطبيق في الواقع المصري، بديلًا عن المؤسسات السياسية والنظام السياسي شبه الليبرالي والتعدد الحزبي والحريات العامة والشخصية... إلخ، التي كانت سائدة بإيجابياتها وما اعتراها من مثالب بنائية قبل 23 تموز/يوليو 1952.
اقرأ/ي أيضًا: فوضى السياسة مصريًا
لا نستطيع اعتبار الشعارات السياسية العامة كمواجهة الفساد أو رفض بعض سلبيات الحياة الحزبية، بديلًا سياسيًا جاهزًا للتطبيق، ولا النوايا الطيبة ولا المشاعر الوطنية الفيّاضة التي تدور حول الاستقلال الوطني عن الاستعمار البريطاني، ولا مكافحة الفقر والسعي للعدالة الاجتماعية، ولا الإصلاح الزراعي ذي الجذور لدى بعض مثقفي جماعة الغد كميريت غالي وأحمد زكي عبد القادر وبعض أعضاء البرلمان.
نعم، لا تكفي النوايا أو المبادئ العامة لصياغة نظام سياسي أمثل لمصر. قادة النظام الجديد، ومن والاهم من التكنوقراط وبيروقراطية جهاز الدولة وبعض كبار الموظفين، لم يكن لديهم خيارات ديمقراطية وتعددية –إلا ما ندر من استثناءات- ومن ثم كانت النظم التعبوية التي تركز على الحشد السياسي ورفض التنوع والتعددية، هي خيارات صفوة "يوليو" الحاكمة.
ماتت السياسة مع التنظيمات السياسية الواحدية، وحزبي مصر والوطني الديمقراطي، التي تقوم على تجميع التناقضات والقوى الاجتماعية تحت شعار تحالف قوى الشعب العامل، مع نفي التعدد السياسي والتناقضات والصراعات الاجتماعية والصيغ السياسية للتحالفات الاجتماعية. لم تستطع تلك التنظيمات أن تدير التناقضات داخلها، بل والأخطر أنها لم تستطع أن تؤسس لثقافة التحالف ولا الائتلاف ولا الجبهات أو خبرات لإدارة التنوع والاختلاف السياسي وفي المصالح، وأقصى ما حدث هي محاولة تجميد الصراع الاجتماعي والسياسي عبر آليات العنف السلطوي، ومطاردة الجماعات السياسية كالماركسيين والإخوان وذوي التوجهات الليبرالية والوفدية، واعتبار غالبهم "أعداء للثورة".
ماتت السياسة عندما انتفت التعددية، وساد التلقين والتعبئة
السياسة تصنعها التعددية والصراعات والإدارة السياسية للنظام التعددي والأحزاب السياسية ودولة القانون والتنشئة السياسية القائمة على التعددية والقيم والثقافة الديمقراطية. ماتت السياسة والسياسيون عندما ساد التلقين والتعبئة وحفظ وتلاوة الميثاق الوطني، ومجافاة واقع التعدد السياسي والاختلاف الديني والتناقضات الاجتماعية، وتمجيد الحاكم المطلق وكلماته التي أصبحت قوانين، والبرلمانات التي تتشكّل وفق آليات انتخابية وشروط قانونية تجعل من مرشحي السلطة هم أعضاء البرلمان، عبر تزوير إرادة الجماعة الناخبة.
اقرأ/ي أيضًا: حروب استعادة الدولة المصرية
من هنا يمثّل ميراث الخلل في النظام الدستوري القديم، والذي يسعى النظام الحالي لاستعادته، أحد أبرز محددات تشوّه الحياة السياسية والدستورية في البلاد لصالح أجهزة السلطة الحاكمة وأجهزتها الأمنية والبيروقراطية، ومن ثم هيمنة رئيس الجمهورية على غالبية الصلاحيات الدستورية ناهيك عن الممارسة الواقعية للسلطة بكل مساحاتها الشاسعة وغلوائها وشراستها المحجوزة عرفيًا للرئيس.
هل نستطيع الزعم أن ثمة سياسة في مصر، والقيود الأمنية والقانونية والإدارية تحول دون ممارسة العمل اليومي والتظاهر السلمي والحركة وسط الجمهور؟ هل يمكننا الحديث عن أي شكل من أشكال السياسة في بلد يكرّر رئيسه الطلب من مواطنيه أن يسمعوا كلامه هو فقط، لأن كل الآخرين أشرار ويتآمرون على البلد؟
الفراغ السياسي هو التعبير البليغ عن موت السياسة في مصر، وليست كارثة تدني نسبة المشاركة السياسية والمجتمعية للمصريين، سوى نتيجة لهذا الموت وتعبيرًا عن ضعف التنشئة السياسية، وتدهور التعليم العام والجامعي، وفقر المعلومات حول ما يجري في السلطة، بل إن الصحافة ليست لديها القدرة والفعالية للحصول على المعلومات الصحيحة من مصادرها الرسمية، إلا بصعوبة شديدة. كيف يمكن للمواطن المصري أن يشارك سياسيًا، بلا معلومات أو تدريب سياسي أو خبرات وتعليم جيد وشفافية تدفق وتداول المعلومات ومساءلة ودولة قانون؟
إن حق المواطن في الحصول على المعلومات غائب، ودونه حواجز عديدة من البيروقراطية المتخمة بالركود وضعف الكفاءة والأداء والفساد الإداري، بل وخطوط حمراء سياسية مفروضة على المعلومات. من هنا تتراكم المشكلات وتتفاقم الأزمات دونما حلول، وهكذا حتى تتداخل في إطار من الإدارة العشوائية والعارضة والسطحية لها، الأمر الذي يؤدي إلى تفكيك في أنسجة الدولة وهياكلها لصالح أجهزة الدولة القمعية فقط، التي تعتمد عليها السلطة الحاكمة، وعلى نحو يؤدي إلى المزيد من تكالب المشكلات والاختلالات والأزمات وتشابكها بحيث يصعب إيجاد حلول وظيفية لها.
إن أخطر ما يتم في مصر الآن يتمثل في غياب البعد المقارن في ذهنية الصفوة السياسية الحاكمة وبقايا جهاز الدولة، ولا سيما بعد اختزال الدولة وظيفيًا في جهاز القمع "المشروع" الذي يفترض أنه يطبّق ويخضع للقانون وقواعد المشروعية. من ناحية أخرى، غياب الحسّ السياسي الخلّاق الذي يأتي عبر التفاعل والاحتكاك والثقافة والخبرة بما يدور في عالمنا من متغيرات وتحولات، وهذا يحتاج إلى رجل السياسة ورجل الدولة الذي يتمتع بحساسية ومعرفة الواقع القومي لمجتمعه وتغيراته، والوعي العميق بما يحدث من تجارب العالم حوله، بما يتطلبه ذلك من حضور السياسة والسياسيين ولكن الحالة المصرية تجافي كل ذلك، وبأشواط طويلة.
يغيب في مصر حق المواطن في الحصول على المعلومات، وتقف دونه حواجز عديدة من البيروقراطية والفساد
هذا الحس والوعي السياسي والمعرفي بالعالم غائب لغياب السياسة والسياسيين في تركيبة الصفوة المصرية الحاكمة والمعارضة –إلا ما ندر- لأسباب عديدة، منها تمثيلًا لا حصرًا، الجمود الجيلي والسياسي الذي خلق شيخوخة سياسية وتكلسًا في المعارف والإدراك السياسي والوعي بزمن العالم المتغير، والأحرى أزمنته فائقة التطور، في ظل نخبة حاكمة ومعارضة متوسطات الأعمار بلغت أكثر من خمسين عامًا.
اقرأ/ي أيضًا: ليس "وعيًا طبقيًا" وإنما روحٌ ثورية
استمرار الوضع على ما هو عليه لا يعني سوى استمرارية موت السياسة، وإضعاف شديد للدولة، وركود مجتمعي خطير، وموت لأجيال، وما نراه من هجمة شرسة على حرية الرأي والتعبير والتحريض على الآراء الحرة والمغايرة يشكّل تعبيرًا مكثفًا عن الغياب عن زمن العالم، وعن الحرية والديمقراطية وسلطان الكلمة الحرة التي لن تنهزم قط حتى في ظل موت السياسة.
اقرأ/ي أيضًا:
الجيش والسياسة - إشكاليات نظرية ونماذج عربية.. كتاب جديد لعزمي بشارة