لسنا بحاجة إلى البرهنة على أنّ المطمح القديم السّاعي إلى جعل الرّياضة خالصةً للرّياضيين محايدةً، منزوعةً من السّلاح السّياسيّ الشّامل قد ظلّ بعيد المنال رغم كثرة الأصوات المنادية بهذا الحياد المضمَّن صراحة في الميثاق الأولمبيّ منذ عهد مؤسّس الألعاب الأولمبيّة الحديثة الفرنسيّ "بيير دي كوبرتان" الّذي كان حالما بتكريس الرّياضة للرّياضة لا غير.
سيبقى الأمل معقودا على جعل الرّياضة عملا دؤوبا يتقصّدُ هدفا سياسيّا يتمثّل في استنفار القيم الأصيلة التّاريخيّة المشتركة
وليس يخفى أنّ الوقائع الكثيرة الّتي تجدّ في أغلب الاحتفاليّات الرّياضيّة تدلّ بوضوح على أنّ حقل الرّياضة ملغَّم سياسيّا، وأنّ المحفِل الرّياضيّ، كان وما يزال أرضية خصبة للتّوظيف السّياسيّ في اتّجاهين متعايشين دوما: تلميع الصّورة أو تشويهها. فهو في حالات كثيرة مدخل إلى تصفية الحسابات والخلافات، ومسلك إلى تحقيق رهانات صنّاع القرار السياسيّ من خلال الاستثمار في الرّياضة على جميع الصُّعُد المحليّة والإقليميّة والدّوليّة، وفي جميع المستويات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة وكذا السّياسيّة. فالريّاضة لها مكاسب رمزية مادّيّة لا تُحصى.
وغنيّ عن البيان ههنا أنّ تاريخ الرّياضة الفرديّة والجماعيّة قد أصابته منذ القرن العشرين لوثةُ الزّج بالسّياسة في شأن كان ينبغي أن يظلّ بمنأى عنه. فمتصفّح سجلّ وقائع التّظاهرات الدّوليّة على سبيل المثال يذكر بلا عناء المرّات الكثيرة الّتي جرت فيها مقاطعة الألعاب الأولمبيّة والبطولات العالميّة، أو تقرّر فيها حرمانُ هذا البلد أو هذا الرّياضيّ من المشاركة فيها، و/أو تمّ فيها الإعلانُ عن الانسحاب احتجاجا على مواقف دول منظّمة أو مشاركة فيها بسبب خلافات سياسيّة و/أو عسكريّة اندلعت بين دول، أو بسبب سياسات نازيّة أو عنصريّة أو صهيونية قد انتُهِجت، أو مواقف مكرّسة للكراهيّة والحقد قد مُورست. ويكفي ههنا أن نستحضر "حرب المائة ساعة" الّتي درات رحاها بين الهندوراس والسّلفادور عقب أجواء مشحونة سادت في مقابلتي الذّهاب والإياب سنة 1969 بمناسبة تصفيات كأس العالم 1970. ويمكن أيضا أن نذكر أجواء الحرب الباردة بين الاتّحاد السّوفياتيّ سابقا والولايات المتّحدة الأمريكيّة، والحرب الّتي اندلعت بين الأرجنتين وإنجلترا بشأن جزر الفوكلاند (المالوين)، والعداء الأزليّ بين الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة والولايات المتّحدة الأمريكيّة، وصولا إلى الحرب بين روسيا وأوكرانيا هذه الأيّام. إنّها جميعها محطّات سياسيّة ألقت بظلالها على الملاعب الرّياضيّة في مختلف الاختصاصات والمنافسات، وكدّرت صفو أن تمارَس الرّياضة للرّياضة.
ويذكر التّاريخ الرّياضيّ أيضا المواقف الفرديّة والجماعيّة المؤيّدة لقضايا عادلة كلّفت أصحابها العقوبات أو الازدراء والتّهجّم، أو التّأييد والإعجاب (من أمثلة هذا: مجاهرة الملاكم البطل الرّاحل محمّد علي كلاي برفضه حرب فيتنام. رفع الأعلام الفلسطينيّة أو أعلام الكيان الصّهيونيّ أو أوكرانيا مُرفرفة في مدرّجات الملاعب، أو مطبوعة على قمصان اللّاعبين. رفع صور رموز وقيادات تاريخيّة لتنظيمات سياسيّة لها رمزيّتها من قبيل الزّعيم الأمميّ الرّاحل " تشي غيفارا" وإهداء الفريق الإيطاليّ كأس العالم سنة 1982 إلى الزّعيم الرّاحل "ياسر عرفات" في سياق حرب بيروت أو تبنّي نادي سيلتيك الأسكتلنديّ وجمهوره قضيّة الشّعب الفلسطينيّ ورفع العلم الفلسطينيّ في جميع مقابلاته، وتصريحات نجوم الرّياضة المؤيّدة لهذه القضيّة أو تلك.ونذكر أخيرا ما رافق مونديال قطر من تهجّم عنصريّ على لاعبين فرنسيين من ذوي البشرة السّوداء بعد خسارتهم الدور النّهائيّ ممّا أثار مرّة أخرى مسألة الهويّة والمواطنة في سياق تجارب ديمقراطيّة عريقة، فضلا عن المصادمات الّتي وقعت، في كلّ من بروكسيل وباريس، بين الجماهير المغربيّة والعربيّة من ناحية، والشّرطة والمتطرّفين العنصريّين من ناحية أخرى، وما حفّ بهذا من "تسييس" في وسائل الإعلام والتّواصل الاجتماعيّ للّقاءين اللّذين جمعا الفريق المغربي مع الفريق البلجيكيّ ثمّ الفرنسيّ، أو بمناسبة التقاء الفريق التّونسيّ مع نظيره الفرنسيّ).
وليس يخفى أيضا أنّ عددا من الأنظمة السّياسيّة الّتي تعاني الأزمات الدّاخليّة والخارجيّة تستخدم، ما أمكن لها هذا، النّتائج الرّياضيّة لرصّ الصّفوف الدّاخليّة، واستثمار هذا النّجاح في التّباهي بحكمة القرار السّياسيّ وإنجازاته، أو تجعله مطيّة لحجب الخيبات الأخرى، وفرصة سانحة لتمرير الزّيادات في الأسعار، وإنفاذ القرارات غير الشّعبيّة بأنواعها، ناهيك عن إلهاء قطاعات من الشّعب عن مشاغلها الحقّ.
وعلاوة على هذا، مثّل التّنافس الرّياضي الدّوليّ بالخصوص مناسبة لبناء تمثّلات جديرة بالدّرس تتّصل بالأفراد والجماعات. ويظهر هذا من خلال استحضار مقوّمات الهويّة الوطنيّة والإقليميّة، والاعتزاز بالقيم الجمعيّة والافتخار بالأمجاد. ويتجسّم كلّ هذا عبر استدعاء محطّات وسياقات تاريخيّة واجتماعيّة وثقافيّة معقّدة، وعرضها بواجهات متعدّدة تستند إلى منطق الثّأر من الاستعمار مرّة، أو ردّ الاعتبار الوطنيّ مرّة، أو تأكيد الصّحوة وامتلاك عناصر القوّة مرّة أخرى، وغير هذا كثير.
ومن جهة أخرى، استفادت الرّياضة بدورها من السّياسة. فكثيرا ما كان تقلّد المسؤوليّة الرّياضية، أو البروز في اختصاص رياضيّ جسرا للعبور إلى منابر السّياسة وارتداء قبّعة رجل الدّولة في مختلف المستويات. فلا عجب أن يتحمّل هذا اللّاعب مسؤوليّة حزبيّة أو برلمانيّة، بل لا عجب، على سبيل المثال، أن يعتلي سدّة الرّئاسة رياضيٌّ ويصبح اللّاعب الرّئيس في سياسة بلاده على غرار ما كان مع اللاّعب اللّيبيريّ "جورج وياه".
وعلى هذا النّحو، يشهد التّاريخ أنّ الرّياضة ظلّت في وجه ما عاكسة للسّياسة، ومقوّما من مقوّمات تدبير الشّأن العامّ كما الاقتصاد والأمن والثّقافة إلخ، وعاملا من عوامل توجيه الرّأي العامّ، والتّأثير في مواقفه. فقد كانت السّياسة، وظلّت طبقا رئيسا في مائدة الرّياضة، فهي الملح الّذي لا يغيب عنها.
كأس العالم فيفا، قطر 2022: شيء من السّياسة.. كثير من كرة القدم
رافقت تنظيمَ قطر النّسخة الأخيرة من كأس العالم منذ إعلان فوزها بهذا الاستحقاق الرّياضيّ الدّوليّ، وقبل انطلاقه، ومع بدايته وأثناءه وإلى غاية يوم اختتامه وما تلاه، حملاتٌ متفاوتة القوّة، متعدّدةُ المصادر. وأمّا مدارها فعلى سلب حقّ قطر في تنظيم كأس العالم، والتّشكيك في نجاحها. وكانت هذه الحملات ذات عناوين مختلفة (وفيات عمّال الملاعب، تكييف الملاعب وتأثيره في البيئة، الحقّ في إشهار علم المثليّين وشاراتهم، استهلاك المشروبات الكحوليّة في الملاعب، ارتداء "ميسّي" "البشت" القطريّ...)، فاستدعت تبعا لهذا ردودا أقوى من عدد من قيادات الصفّ الأوّل السّياسيّ والرّياضيّ قَطَريّا وإقليميّا ودوليّا. وقد كانت ردود الفعل أيضا مشفوعة بتعاطف أبدته هيئاتٌ وتنظيمات وأصوات من عالم الرّياضة والإعلام، ومن عموم النّاس تقرأ دواعي الحملات، وتنبّه إلى الغايات غير الرّياضيّة المحرّكة لها، وتتباهى بقدرة بلد عربيّ صغير ليست له تقاليد راسخة في كرة القدم على أن يجعل نسخة كأس العالم قطر 2022 مُبهرة رياضيّا وتنظيميّا ولوجستيّا وأمنيّا وثقافيّا.
حفلا الافتتاح والاختتام بمذاق مختلف: سياسة الرّموز
بعيدا عن الجانب البروتوكوليّ المعهود في مثل هذه المحافل الرّياضيّة الدّوليّة والمرافق لحفلي الافتتاح والاختتام وما يصاحبه من تشريفات رسميّة، وجلسات، ومصافحات على هامش الاحتفالين، فضلا عن تصريحات الضّيوف من زعماء البلدان الّتي تُصنَّف عادة في باب الدّيبلوماسيّة الرّياضيّة ذات الرّائحة السّياسيّة، فإنّنا سجّلنا ما لا نشكّ في أنّ اللّجان المشرفة على تنظيم الحفلين من الجانب القطريّ قد أحكمت إعدادَه حتّى يُبَلَّغ المقصد من هذين الحفلين. لقد رأى الجميع فيهما قدرا من التّركيز على البعد الرّمزيّ. وهذا الأمر استفاض في التّوقّف على مكوّناته، وسماته، ودلائله المحلّلون، والمراقبون. وقوام هذه الرّمزيّة بعدان متلازمان جسّمارسالة ثقافيّة حالمة بعالم أكثر إنسانيّة، ونعني: الاعتزاز بالخصوصيّة في ظلّ التّنوّع من جهة، وأنّه لا خيار إلاّ قبول الآخر والتّسامح في ظلّ تبجيل التّعارف الحقّ بعيدا عن الصّور النّمطيّة، وازدواجيّة المعايير، وخطاب الكراهيّة، والحقد. وهذا في تقديرنا قصد سياسيّ بالمفهوم الموسَّع بلا نزاع.
فمن ناحية أولى، حسبنا أن نستحضر شكل الملعب الّذي احتضن الافتتاح وهندسته وتسميته (البيت)، وكذا التّعويذة الرّسمية لهذه النّسخة من كأس العالم ("لعيب" بلباسه الخليجيّ العربيّ)، علاوة على التّرحيب باستخدام اللّهجة القطريّة "هلا"، فضلا عن حضور الخيمة والصّحراء والخيل والإبل والألبسة. وهذا جميعه عاكس لخصوصيّة الثّقافة القطريّة والعربيّة الّتي جسّمتها اللّوحات السّبع خلال عرض الافتتاح. وقد رافقت هذه الرّموز الحيّة مظاهر من التّحديث التّقنيّ واللّوجستيّ الشّاهد على ضخامة الاستثمار من أجل أن تكون قطر جاذبة، مبهِرة، مقنِعة لمن حضر فعاليّات كأس العالم أو كان شاهدا عليها من بعيد.
ومن ناحية أخرى، وبخصوص الاختتام، استرعى اهتمامُ الجمهور العريض عند تتويج اللّاعب ميسّي" بكأس العالم إكساؤُه "البشت" القطريّ الّذي أسال حبرا كثيرا في قراءة دلالات هذه الفكرة. ولقد ذكّرت هذه الحركةُ المدروسة المتابعين بحركة رمزيّة أخرى جسّمها أسطورة كرة القدم البرازيليّ "بيلي" لحظة تتويج فريقه بكأس العالم عندما ظهر مرفوعا على الأعناق حاملا كاس العالم وعلى رأسه قبّعة "الصُّمْبريرو" (أحد الرّموز الثّقافيّة المكسيكيّة)، سنة 1970 عقب إحراز البرازيل على كأس العالم بملعب "أزتيكا" بمكسيكو. وأمّا "البشت" الّذي شاع صيته، وارتفعت معدّلات مبيعاته، فقد ذكّر برسائل حفل الافتتاح، وعاد بنا مرّة أخرى إلى مربّع الاعتزاز بمقوّم من مقوّمات الهويّة الوطنيّة، وبالخُصوصيّة القطريّة الخليجيّة الّتي تغرس المحليّ في سياق كونيّ. وعلى وجه العموم، تأكّد أنّ الحفلين راهنا على الحضور القويّ للرمزيّة السّياسيّة بالمعنى الموسّع للسّياسة، وحرصا على ألاّ ينخزل الإبهارُ في التّقنية وروعة الصّورة، بل على أن يكون إحكام استخدام التقنية في الإبهار الماديّ، مرفودا برسالة رمزيّة مضمونة الوصول تناقلها في وقت واحد، واستعادتها ملايين المرّات، وسائلُ الإعلام ووسائط التّواصل الاجتماعي بجميع اللّغات.
وخلال الأيّام الفاصلة بين الحفلين، أمكن لمن عاش على إيقاع هذه النسخة الموندياليّة أن يراقب عن كثب أو يكون طرفا في تفاصيل الحفل المستمرّ في الملاعب وخارجها. فهو حفل إذ تعيش لمدّة قصيرة مكثَّفة تكثيفا ساحرا فيما يشبه برج بابل تختلط فيه الأصوات/ اللّغات. ولكن مع ذلك لا شيء يمنع من التّفاهم برمز هذه اللّغة أو تلك، وبإشارة اليد، وبابتسامة مرسومة على الفم، وبتقطيبة جبين فيها استغراب ونحو ذلك من قنوات التّواصل ووسائل فكّ الشّيفرات. وهو حفل إذ تجد نفسك تتّخذ مقعدا في ما يشبه المسرح المفتوح يرتاده فاعلون من أجناس وأعراق وأديان وفئات اجتماعيّة وطبقات وأمزجة وانتظارات فسيفسائيّة. إنّهم شتات/ جمع من النّاس يلتقون بصورة عفويّة، بملابس مختلفة، وهيئات غريبة أحيانا، يعزفون موسيقات ذات إيقاعات ينتظمها الانسجام والتّباين في آن واحد، ولهم طرق تصرّف تبدو مشتركة حينا، وغير مألوفة حينا آخر. وهو حفل، إذ تكون شاهدا على مشاركة سخيّة في الفضاء العامّ والخاصّ، الرّياضيّ وغير الرّياضيّ. أخلاطٌ من النّاس يملؤون الشّوارع، ينادي كلّ فريق منهم على لَيلاه في الملاعب والمناطق المخصّصة للمشجّعين أو خارجها. تراهم متجاورين في المطاعم والمحلّات التّجاريّة، مترافقين في وسائل النّقل، وتجدهم يتحاورون في هذا الشّأن أو ذاك، وتدركهم يتزاورون في البيوت وغيرها في ضرب من التّعايش الفذّ. في هذه المشاركة ما فيها من الحذر والخوف السّاكنيْن في كلّ واحد من هذا الآخر الغريب، وفيها ما فيها من لذّة الكشف والاكتشاف وإعادة التّعرّف على الآخر/ الغريب. وفيها ما فيها من اجتهاد لمقارنة الصّور النّمطيّة المخزَّنة في اللّاوعي، المترسّبة في ذهنيّات هذه الأقوام القادمة من فِجَاج عميقة بما يُرى ويُسمع في الواقع لغاية طردها أو تعزيزها.
ولقد أثبتت مجموعة من التّقارير والتّصريحات أنّه طوال 28 يوما من المنافسات تعايش ملايين المشجّعين من جنسيّات وألوان وأعراق ومعتقدات وثقافات مختلفة، إذ لم تُسجَّل حوادث عنف أو تحرّش أو تمييز قائم على أيّ مسوّغ مهما كان. وعلى هذا النّحو، ثبتت قدرةُ هذه الشّعوب على أن تُرهف السّمعَ إلى رسالة جدّد التّذكيرَ بها هذا المحفلُ الموندياليّ: ما يوحّدنا أكثر ممّا يفرّقنا، وتنوّعُنا هو مصدر ثرائنا، وهويّتُنا الإنسانيّة، رغم اختلاف مقوّماتها، هي بناء تاريخيّ مشترك.
والّذي تأكّد أنّ الرّياضة عموما، وكرة القدم تحديدا، رغم ما يقال اليوم بشأن سَلْعَنَتها من خلال الحضور القويّ لاستثمار دوائر المال فيها، وهيمنتها عليها، فإنّ نبضَ الشعبيّ ظلّ ملازما لها، ثابتا فيها. فهي تتيح لمن يمارسها (وهم في الأغلب الأعمّ من وسط شعبيّ)، أو يشاهدها فرصَ الاستمتاع بعروضٍ من الفرجة الشّعبيّة المفتوحة في شوارع المعنى الّتي لاحدّ لها، والّتي تُرجِع الرّياضة إلى معدنها الأوّل، ومدارها الأصل. إنّه سحر الرّياضة/ كرة القدم وفتنتهما اللّذان يعيدان رسم الأشياء، وينقّيان الصّورة، ما أمكن هذا، من لوثات عالقة بالفعل الرّياضيّ بفضل ما تراه العين، وتسمعه الأذن، ويتذوّقه اللّسان، وتلمسه اليد، ويشمّه الأنف.
انتهى الحفل.. ابتدأ الحفل
أقام حفلا الافتتاح و الاختتام، وما كان بينهما من فعاليّات، جسورا بَيْنثفافيّة سالكةً يجدر بالجميع أن ينتبهوا إلى المغانم الّتي يمكن اجتباؤها من ورائها، بل يتعيّن علينا كلّنا أن نحرص على تعهّدها بالصّيانة والتّجديد والتّصليب.
ولقدأكّدت سياقات هذا المونديال أنّ بين الرّياضة والسّياسة مسارب ومسالك لا يمكن قطعها، فبينهما تراكب وتداخل يصعب الفكاك منه. ولكن بالعودة إلى المطمح الأولمبيّ المثاليّ إلى تحييد الرّياضة وترقيتها في مدارج السّموّ، يظلّ الأمل قائما في ترييض السّياسة من خلال تعزيز قيم التّنافس في حلباتها بكلّ روح رياضيّة عبر قبول الهزيمة والفوز في مختلف الاستحقاقات السّياسيّة، وإقرار حقّ الآخر في أن يشاركك بناء الوطن الّذي يسع الجميع، ويتنافس فيه الجميع من أجل أنسنة واقعنا في احترام لحقّ الفرد والمجموعة في العيش المشترك في كنف احترام الحقوق الإنسانيّة الكونيّة. وتظلّ النّفوسُ، في الآن نفسه، توّاقة إلى تسييس الرّياضة من مداخل الفعل الإيجابيّ بفضل توفير المقوّمات المؤسّسيّة الرّسميّة، والمحفّزات الفرديّة الجماهيريّة حتّى يظلّ التّنافسُ الرّياضيّ جسرا للتّعارف والمحبّة، وبوّابةً تُشرَع أبوابها لتوطين القيم السّامية، وإشاعة التّفاهم والتّسامح، وقبول المختلف، والتّعايش والقضاء على جميع أشكال الكراهيّة والاستعداء الفرديّ والجماعيّ مهما كان مبرّرها. فقَدر الرّياضة أن تكون بعيدة كلّ البعد عن كلّ نوايا الزّج بها في أتون الحسابات والرّهانات السّياسويّة الحائلة دون تدبير معاش النّاس في المدينة في كنف العدل والسّلم والمحبّة.
لا بدّ من هذا حتّى تبقى الشّعلة الأولمبيّة تنير شيئا من عتمة واقعنا اليوم، وتنشر دف اللّقاء بين الأمم واجتماع الثّقافات، وتشيع بهجة المتعة بردم الفجوة بين أفراد عالم يحتاج إلى مزيدٍ من تكريس إنسانيّته ومواطنته، وينشد أهلُه طرد بشاعة التّوحّش، ومظاهر التّنافي.
ومن ناحيتنا نحن العرب، حصل شبه إجماع عربيّ على مسائل عدّة منها الاعتزاز بنجاح قطر في تنظيم هذا المونديال بكيفيّة مذهلة، والتفاف عربيّ غير مسبوق يلهج بلغة واحدة كلّما تكلّمت الكرة عربيّا. فلقد شجّعت الجماهير بلا قيد فرق قطر والمغرب وتونس والسّعوديّة، وأخيرا كان الانتشاء غير مسبوق بملحمة المغرب. وممّا يجدر التّنويه به أنّ هذا التّوحّد وراء فريق بسبب وحدة الرّوابط أيّا كانت، لم يُلحَظ، على سبيل المثال، في سلوك المشجّعين الأوروبيّين في علاقة بفرق غير فرقهم الأمّ، رغم انتمائهم إلى فضاء أوروبيّ موحَّد. وهذا أمر يحتاج إلى تدبّر أيضا.
ومن جهة أخرى، رافقت هذا وذاك رفرفة العلم الفلسطينيّ في المدرّجات وخارجها في جميع المقابلات بلا استثناء تقريبا رغم عدم تأهّل الفريق الفلسطينيّ لهذه النّهائيّات. ورُفِع هذا العلم في المستطيل الأخضر عقب فوز الفريق المغربي أمام الفريق الأسبانيّ، وعند اقتحام المشجّع التونسيّ "محمّد أمين بلّاغة" الميدان رافعا العلم الفلسطينيّ بين شوطي مقابلة الفريقين التّونسيّ والفرنسيّ. ومن الثّابت أنّ هذا وغيره من مواقف التّجانس بين العرب يدلّ على أنّ الرّياضة تُذكِّر السّاسة أنّ الاعتزاز بالانتماء إلى أرض موحّدة، بتاريخ واحد ولغة واحدة، وثقافة مشتركة متنوّعة في وحدتها هو أمر لا يحتاج إلى قرار، بل إنّه سلوك عفويّ يُعاش ويُمارس. ومن فضل الرّياضة في هذا المونديال أنّها أكّدت رسوخ هذه المشاعر فتجلّت على سطح الملاعب وخارجها.
والأمل وطيد ألّا يخبو هذا الإحساس العارم بالانتماء بمناسبة أوّ ل لقاء بين فريقين عربيين فنعود إلى مربّع التّنافر والخلاف. إنّ غالبيّة العرب يتطلّعون إلى أن يكون هذا الإحساس القابع في دواخلهم منطلقا لاستثمار الوعي بالانتماء المشترك من أجل العمل على أن يسكنَ العربُ في خيمة واحدة تُثبَّت أوتادها في أرض تمتدّ من الخليج إلى المحيط فنصير إلى حلم الوحدة القديم بأكثر واقعيّة.
ومن فضل الرّياضة في هذا المونديال كذلك أن أكّدت بسبب من القرار السّياسيّ الشّعبيّ، وفي سياق متّصل بالقضيّة الفلسطينيّة، أنّ التّطبيع الوحيد الّذي يعرفه أغلب الجمهور العربيّ ويعترفون به هو كونهم مع قضيتهم الأمّ دون قيد أو شرط. وهذا ما نجحت الصّورة المبثوثة في جميع أصقاع العالم في ترويجه. إنّها فتنة الصّورة وبلاغتها الأشدّ تأثيرا في النّفس من بلاغة المنابر.
ولمّا كان الحفل هو حفل أن تكون بجانب الآخر تقبل خصوصيّته، ويُقِرّ لك، هو بدوره، حقّك في تنوّعك والحفاظ على خصوصيتك، وأن ترى أَنَاكَ في الآخر القريب/البعيد منك شيئا ما يجمعك إليه بعيدا عن دَنَس اللّاإنسانيّ الّذي يطفو فينا وحولنا هنا وهناك، فإنّه ليس لنا من بدّ إلاّ أن نجتهد في طمس التّنافر القاتل بين الشّعوب والثّقافات، وليس لنا إلاّ العمل الجادّ بغية طرد أوجاع اليوميّ الثّقيلة، والتّخفيف من حدّة اليأس الّذي يؤجّله أو يقطع دابرَه صنّاع الحفل الرّياضيّ وهم يزرعون حولهم حدائق الحلم والأمل.
سيبقى الأمل معقودا على جعل الرّياضة عملا دؤوبا يتقصّدُ هدفا سياسيّا يتمثّل في استنفار القيم الأصيلة التّاريخيّة المشتركة. ومن شأن هذا العمل أن يجعل الرّياضة رافعة مشتركة بين الشّعوب، موحّدة للرّاهن المتعدّد والمختلف بين الثّقافات المتنوّعة. ومن شأنها أيضا أن تكون مساهمة في رفع الأذى، وقوّة دافعة إلى بناء مستقبل يريده الجميع أفضل ممّا كان، وحاضرةً بقوّة حتّى في حال التّنافس الرّياضيّ البينيّ بين أبناء الثّقافة الواحدة، فلا نصير إلى تفكيك النّحن الواحد إلى أنَوات متذرّرة، متفرّقة، تنفخ في رماد الخلاف والأحقاد.
سيظلّ الطّريق طويلا، ولكنّ طلب المستحيل يظلّ مطلبا واقعيّا محتمل التّحقّق. وهذا علّمنا إيّاه التّنافس الرّياضيّ الحقّ.
كان هذا كلّه بعضًا من رائحة أن تكون موندياليّا في فضاء صغير يسع العالم كلّه بسببٍ من الرّياضة. ويظلّ ما قاله القائد المناضل الرّاحل "نيلسون مانديلا" خالدا منذ سنة 2000 عندما أعلن بحكمة الزّعماء أنّ "للرّياضة سلطة تغيير العالم.. الرّياضة تخلق الأمل في مكان لا يوجد فيه إلّا اليأس، إنّها أقوى من الحكومات في إسقاط الحواجز العنصريّة".
سيظلّ الطّريق طويلا، ولكنّ طلب المستحيل يظلّ مطلبا واقعيّا محتمل التّحقّق. وهذا علّمنا إيّاه التّنافس الرّياضيّ الحقّ.