يخوض الكاتب الكينيّ نغوغي وا ثيونغو (1938) منذ سنواتٍ طويلة خلت حربًا ضروسًا في مواجهة مخلّفات الحقبة الكولونيالية بوصفها حقبة اشتغلت جاهدةً لا على استعمار الأرض ونهب الثروات فقط، وإنّما استعمار العقل الإفريقيّ أيضًا، متوسّلةً بروباغندا مفادها أنّ الشّعوب الأفريقية لا حضارة لها، وأنّ حضارتها بدأت لحظة دخول المستعمرين إليها برفقة ثقافة جديدة همّشت الثقافات واللغات الأصلية وغيّبتها لتجعل من الأفارقة، بعد أن فُرضت عليهم لغات وعادات وثقافات جديدة، غُرباء داخل أوطانهم.
تناول الروائيّ نغوغي وا ثيونغو العلاقة بين التراثين الاستعماريّ والأصليّ، بالإضافة إلى العلاقة بين الطبقة الحاكمة التي تُقدّم نفسها باعتبارها مُمثّلًا وحيدًا لـ "الدولة الوطنية"
اشتغل وا ثيونغو أدبيًا وفكريًا على التصدّي لهذه البروباغندا التي خلّفت، بعد نيل الدول الأفريقية لاستقلالها، صراعًا لا يزال قائمًا حتّى هذه اللحظة بين طرفين: يتبنّى الأوّل التراث الاستعماري ويشكّل خطّ دفاعٍ عنه، بينما يتصدّى الطرف الثاني لهذا التراث ويعمل بمختلف الوسائل على مقاومته التي تعني أيضًا الدخول في صراعاتٍ أخرى غير مُباشرة في مواجهة البرجوازية العالمية التي تُحافظ على هذا التراث إلى جانب الطبقات الحاكمة التي تُمثّل عبر تبعيتها الاقتصادية والسياسية للقوى الاستعمارية مصالحها رسميًا في قالبٍ استعماريٍّ جديد (نيو كولونيالية).
اقرأ/ي أيضًا: "حبة قمح" نغوغي وا ثيونغو في طبعة عربية جديدة
تناول الروائيّ الكينيّ هذه العلاقة بين التراثين الاستعماريّ والأصليّ، بالإضافة إلى العلاقة بين الطبقة الحاكمة التي تُقدّم نفسها باعتبارها مُمثّلًا وحيدًا لـ "الدولة الوطنية"، والقوى الاستعمارية التي تُخضع تلك الطبقات لها عبر أدواتها الاستعمارية الجديدة، وأخيرًا العلاقة بين الطبقة الحاكمة والشعب الذي فُرضت نفسها عليه بقوّة المؤسّسات الأمنية والعسكرية والدينية، بالإضافة إلى المؤسّسات والأفراد الذين يقدّمون مُعادلات فكرية وثقافية لتوجّهات "النُخب" والمستعمرين في آنٍ واحد؛ في كتابه المعنون بـ "تصفية استعمار العقل" (مؤسّسة الأبحاث العربية، 1987).
ويصف وا ثيونغو في هذا الكتاب التراث الأصليّ للمجتمعات الإفريقية بـ "التراث المقاوم"، ويُحدِّد الفئات التي تتبنّاه وتقاتل بأسلحتها المختلفة في سبيله بكلٍّ من العمّال والفلّاحين الذين يشكّلون إلى جانب الطلبة والمثقّفين الوطنيين من كتّاب وصحافيين وأكاديميين بالإضافة إلى التقدّميين من أبناء الطبقة الوسطى الصغيرة؛ جبهة موحّدة لها أهداف واضحة وثابتة: مكافحة الاستعمار بشكليه التقليديّ والجديد في سياق حركة تحرّر وطنيّ قائمة على مبدأ أنّ كلّ ضربة توجّه إلى القوى المستعمرة، بغض النظر عن هوية وإثنية من وجّهها، هي انتصار لكلّ الفئات المناهضة له في مختلف القوميّات. وأنّ حصيلة هذه الضربات هي التي تشكّل في نهاية المطاف التراث الوطنيّ.
الضربات التي يتحدّث عنها صاحب "النهر الفاصل" يجب أن يُسدِّد المثقّف الحصّة الأكبر منها بصفته مسؤولًا بطريقةٍ ما، وفي مكانٍ ما أيضًا، عن تكوين وعي أبناء جلدته. ويُشدِّد هنا على ضرورة أن يُشكَّل هذا الوعيّ من خلال اللغة القوميّة التي يجب أن تكون الوسيط بين المثقّف وبقية طبقات الشّعب بدلًا من اللغات الإنجليزية أو الأوروبّية المُختلفة، لأنّ في استخدام هذه اللغات كوسيط تكريسًا لها وللسرديات الكولونيالية حولها أيضًا.
في كتابه الذي نقلتهُ عهود بنت خميس المخينّي إلى العربية، وأصدرته (ابن النديم/ الروافد الثقافية) مطلع العام الجاري تحت عنوان "الكتّاب في السياسة: إعادة إشراك قضايا الأدب والمجتمع"، يُعيد نغوغي وا ثيونغو تناول مسألة اللغات القومية التي تسعى القوى والمؤسّسات الكولونيالية إلى إلغائها كجزء من استراتيجيتها في فرض ثقافتها على القارّة الأفريقية. ولكنّ تناوله لها جاء على هامش مناقشته لمسألة علاقة الكتّاب بالسياسة وموقعهم داخلها أيضًا، لا سيما في ظلّ وجود العديد من الأمور المُشتركة بين الكاتب والسياسيّ: كلاهما يُتاجران بالكلمات، شكّلهما الواقع نفسه للعالم المُحيط، ولهمومهم ونشاطهم الهدف نفسه: العلاقات البشرية وقضاياها.
العلاقة بين الكتّاب والسياسة في جزءٍ منها تأتي نتيجة تأثّرهم بالطُرق التي ينتظم بها مجتمع ما، وكذا الطريقة التي تُنظَّم بها السلطة في المجتمع أيضًا. فالكاتب، بوصفهِ نتاج التاريخ والزمن والمكان، وباعتباره فردًا في المجتمع، ينتمي إلى طبقة مُعيّنة ويُشارك في الصراع الطبقيّ؛ يكون على الدوام قابلًا للتأثّر بتلك الطُرق التي لا تدفعهُ نحو الانخراط في أيّ نشاطٍ سياسيّ فقط، وإنّما تجعلها أيضًا جزءًا لا يتجزّأ ممّا يسمّيه وا ثيونغوا بـ "الإقليم الأدبيّ" للكاتب، أو "إقليم همومه" التي تتمحور حول التاريخ الذي يشكّل موضوعًا ثابتًا عندهُ، بالإضافة إلى عملية تصرّف الناس بالطبيعة وتغييرها، وهو فعل يعني بالضرورة التصرّف في النفس البشرية وتغييرها، عدا عن العلاقات المُتغيّرة للإنتاج، وغيرها من العناصر التي تشغل الكتّاب، على الأقلّ ضمن النموذج الإفريقيّ فقط.
وبأخذ كلّ ما ذُكر بعين الاعتبار، يكون نتاج مساهمة الكاتب القصصية انعكاسًا للمجتمع، بدءًا من بنتيه وتشكيلاته الطبقية وأزماته، مرورًا بتناقضاته وصراعاته الثقافية والسياسية وبنية قيمه، خاصّةً الأزمات والتوتّرات الناشئة من العداء بين الذين يتّجهون إلى حتفهم والذين يُشيرون إلى المستقبل. لهذا السبب بالتحديد، يكون الأدب أكثر قدرة وحدّة على منح المجتمعات البشرية بصائر لما يسمّيه وا ثيونغوا بـ "الروح المُحرّكة للعصر" من جميع الوثائق السياسية والتاريخية التي تتناول اللحظة ذاتها.
داخل حدود المجتمعات الإفريقية، تتّخذ العلاقة بين الكتّاب والسياسة أشكالًا مختلفة باعتبار أنّ الكاتب والسياسيّ هناك هو غالبًا الشخص نفسه، لأنّه في كلّ مرحلة من طرح وعي الناس الجمعيّ، يُقاد الكاتب إلى صراعات سياسية نشطة، وإن لم يكن في الأساس منغمسًا في أي نشاط سياسيّ، إلّا أنّه يجد نفسه منخرطًا فجأة في الصراعات السياسية الحامية الراهنة. حينها، لا يكون من المهم مصداقية الكاتب وأمانته في تصوير هذه الصراعات، وإنّما موقفه منها، ذاك الذي لا يعني "وقفة بطولية"، وإنّما موقف عالميّ يتجسّد في أعماله التي يُقنع بها الآخر للتعرّف على الدراما التاريخية التي تخضع لها جماعته.
يرى من قدّم "تويجات الدم" أنّه هناك نوعان من الكتّاب يُعرفان بمواقفهما إزاء مجتمعهما: من يفترض أنّ المجتمع ثابت أساسًا ومُستقرّ، إمّا لأنّهم يعيشون في فترة افتُرِضَ فيها بشكلٍ عام أنّ المجتمع مُستقرّ، أو لأنّهم مُشَرنقون في طبقتهم أو أنّهم في تفسير آخر، سجناء حملات الطبقة المهيمنة الدعائية إلى الدرجة التي تحوّلوا عندها إلى كتّاب متبلّدي الشّعور تمامًا إزاء الأزمات البنيوية الأساسية. وما يثير اهتمام هؤلاء الكتّاب هو السلوك الأخلاقي لشخصياتهم، أيًّا كانت طبقتهم وعرقهم وأصولهم كذلك الدينية والإثنية.
العلاقة بين الكتّاب والسياسة في جزءٍ منها تأتي نتيجة تأثّرهم بالطُرق التي ينتظم بها مجتمع ما، وكذا الطريقة التي تُنظَّم بها السلطة في المجتمع أيضًا
هذه الفئة من الكتّاب بوسعها، في أفضل الأحوال، أن تُنتج: "أدبًا نقديًا اجتماعيًا صارمًا. إلّا أنّ موقفًا مماثلًا كهذا إزاء المجتمع وتجريد الأنواع البشرية والمُثل الأخلاقية من أساسها في البنية الطبقية والصراع الطبقيّ، غالبًا ما يُفضي إلى أدب مُتميّز باندفاعه الضحل في المجتمع، يحفظهُ من السلوان فقط نقّادنا الذين لا يملكون أدوات نقدية غير العبارات المُستهلكة خاوية المعنى" (ص 104).
اقرأ/ي أيضًا: هوية أفريقيا.. من المسرح المفتوح إلى وهم الاستقلال
في المقابل، ثمّة كتّاب آخرون لا يفترضون استقرارًا دائمًا في المجتمع، إمّا لطبيعة الفترة التي عاشوها، أو لمنهجهم الجدلي الواعي والفطري للحياة والمجتمع. هذا الافتراض يترك تأثيره على الطريقة التي يصنعون بها شخصياتهم، بحيث يكون سلوكها الحقّ متجذّر بصرامة في التاريخ والظروف الاجتماعية المُتغيّرة. بالإضافة إلى أنّ المساحة التي تشتغل بها هذه الفئة هي غالبًا الصراعات بين الناس، تلك التي تكون في طبقات متفاوتة وتصوّرات متفاوتة بل ومتضادّة لنظام العالم: "من يتولّى زمام السلطة وعلى مَن أن يتولّاها وما الغايات التي تُخصَّص لها هذه السلطة واحتمالات نظام عالميّ جديد من رحم القديم".
اقرأ/ي أيضًا:
عنف فرانز فانون.. أسئلة في التحرر ونفي التشيؤ
كتاب "الجزائر عاصمة الثورة.. من فانون إلى الفهود السوداء": وثيقة هويّة