تتعدد الطرق التي تستخدم فيها الأنظمة الاستعمارية والشمولية وكذلك الشركات قضايا حقوقية وأخلاقية لتلميع صورتها. بدءًا من استخدام حقوق السكان الأصليين، الذي عرف باسم الغسيل الأحمر (Redwashing)، خاصة في الخطاب الإسرائيلي، وصولًا إلى استخدام حقوق النساء والمثليين المعروف باسم "الغسيل الوردي" (Pinkwashing). ولهذا، فإنه لم يكن غريبًا أن يستخدم النظام المصري، قضايا حقوق المرأة التي لا يؤمن بها، بنفس الطريقة لتلميع صورته المهزوزة، مع مئات التقارير عن الانتهاكات الحقوقية الفادحة التي يرتكبها. لكن ما كان صادمًا، أن تكون نوال السعداوي، وهي واحدة من أبرز النسويات العربيات، إن لم تكن أبرزهن، جزءًا من هذا التوظيف.
سبق للسعداوي أن عبرت عن إعجابها بنظام الانقلاب في مصر، حتى أنها رفضت تسمية ما حدث انقلابًا
فقد أثارت تصريحات أدلتها السعداوي، في برنامج بلا قيود على قناة "بي بي سي" من لندن قبل يومين، جدلًا واسعًا، حيث قالت إن هناك أجندة في الإعلام الغربي من أجل مهاجمة النظام المصري الذي يقوده عبد الفتاح السيسي، نافية أن يكون ديكتاتورًا أو أنه يقود نظامًا قمعيًا. وتبنت المفكرة المصرية سردية "السيسي المخلص"، الذي أنقذ مصر من حكم الإخوان المسلمين المفروض، حسب وصفها، من المخابرات الأمريكية والإسرائيلية.
لم تكن هذه التصريحات مفاجئة كثيرًا، فقد سبق للسعداوي أن عبرت عن إعجابها بنظام الانقلاب في مصر، حتى أنها رفضت تسمية ما حدث انقلابًا، لكن ما قالته مؤخرًا، استدعى كثيرًا من الأسئلة، إذ كيف تقف مناضلة نسوية، شاركت في ثورة يناير ضد حكم مبارك كما ناضلت ضد السادات، مع نظام عبد الفتاح السيسي، الذي وصل بالبلاد إلى مراحل غير مسبوقة من القمع ومناهضة الحريات؟
اقرأ/ي أيضًا: نوال السعداوي.. ممنوعة في الخامسة والثمانين!
هناك عدة مستويات للإجابة على هذه الأسئلة، خاصة إذا رُبطت بالحالة العامة التي ينكشف فيها كل فترة، تناقض مثقفين رفعوا شعارات الحرية ووقفوا مع الاستبداد.
يتعلق المستوى الأول بغياب سؤال الاستبداد بالمعنى العام عن صراعات النخب العربية التقليدية. ومثل ما يحدث بالضبط مع التقدميين والماركسيين الذين لا يحتجون على نظام إلا إذا اتخذ سياسات تعزز الفجوات الاقتصادية بين الناس، أو إذا أصدر مراسيم خصخصة، ويؤيدون أنظمة الإصلاحات الاجتماعية والتأميم، حتى عندما يكونون هم أنفسهم ضحاياها، فإن ما يخص نوال سعداوي من مسألة الأنظمة الشمولية، رغم أنها تعرضت للاعتقال والتعذيب، هو القوانين أو الإجراءات الرسمية التمييزية والمناهضة للمرأة، وكأنها تختصر النضال النسوي لا فقط بمجموعة من الحقوق الأولية فقط، ولكن المدنية، البعيدة عن المشاركة السياسية.
تجادل سعداوي في نفس البرنامج الذي ظهرت فيه قبل يومين، أن نظام السيسي يتبنى موقفًا مناصرًا لحقوق المرأة، لكن الصادم أن صاحبة كتاب "المرأة والجنس" تستشهد لإثبات ذلك، بميل السيسي لإلغاء الطلاق الشفهي، غير أنها تتجاهل القمع المنظم الذي تتعرض له آلاف الناشطات المصريات منذ تولي النظام الجديد في 2013.
لم تعد النسوية طبعًا، وربما لم تكن، موقفًا ضد التمييز بين الرجال والنساء بالمعنى المباشر فقط، فللنسوية موقفها من مجمل القضايا الحقوقية والأخلاقية، ولها رأيها في العلم ومناهج البحث، وعندها نقدها للديمقراطية والعلمانية والنظام السياسي، إلخ. ولذلك فإن الحركة النسوية المعاصرة على الأقل، تقف في صدر النقاش عن الجنسانية والحريات. وسيكون من المثير للإعجاب أن سعداوي، التي تخطر في بالنا فورًا عندما نسمع مصطلح النسوية العربية، تدافع عن نظام اعتقل صبايا وشبابًا فقط لأنهم رفعوا العلم المناصر لحقوق المثليين، ويقول إن هناك مؤامرة لترويج المثلية الجنسية من أجل هدم المجتمع المصري.
اقرأ/ي أيضًا: "المرأة قد تجلد ذاتها".. نوال السعداوي تثير زوبعة في المغرب
أما المستوى الثاني، فهو الموقف من الحركات الإسلامية ومن الدين نفسه. لقد تبنت السعداوي، مثلها مثل كثير من النخبة الليبرالية التقليدية في الوطن العربي، ذلك الرأي الذي يضع الدين على النقيض من الحريات، ويحمل "الرجعية الدينية" كل مشاكل المجتمعات العربية. وليست المشكلة في الإيمان بهذا التناقض، فلهذا الرأي من يدافع عنه، لكن المشكلة في اختصار مشاكل الديمقراطية و"التخلف" والتمييز ضد المرأة، في المسألة الدينية، وهو ما ينطوي بالتأكيد على تجاهل مباشر للاستبداد.
لم تعد النسوية طبعًا، وربما لم تكن، موقفًا ضد التمييز بين الرجال والنساء بالمعنى المباشر فقط، فللنسوية موقفها من مجمل القضايا الحقوقية والأخلاقية
يحتاج هؤلاء أيما حاجة للدين، فمن خلال تحميله أزمات المجتمع العربي جميعها، ومنها أزمة التمييز ضد المرأة، يستطيعون التصالح مع الاستبداد، دون أن يخسروا مواقفهم "التقدمية" أو مناصرتهم للحريات. غير أن العارف بتعقيد مسألة النساء العربيات، لا يمكن أن يقبل بهذا اللوم الأحادي للدين، أو للمؤسسات الدينية.
قد تكون الكاتبة والروائية المصرية متسقة إذًا مع مواقفها وآرائها السابقة، فقد رأت في الرئيس المصري الجديد، خلاصًا من المعضلة الأكبر، ولم تحتج أو حتى تشعر أن من دورها التفكير فيما هو دون ذلك. ولهذا فإنها لا ترى، أو لا تريد أن ترى، آلاف النساء الضحايا اللواتي يتعرضن لانتهاكات يومية من السلطات.
اقرأ/ي أيضًا: