بعد نحو ست سنوات على مقتلها في قصف لقوات النظام السوري، تكشف قضية الصحفية الأمريكية ماري كولفين، جانبًا آخر من جرائم النظام السوري المتعمدة، وهي استهداف الصحفيين الأجانب عبر عمليات عسكرية مخطط لها بدقة، هذا ما أوردته تغطية صحيفة نيويورك تايمز لتطورات قضية ماري كولفين، ننقلها لكم هنا مترجمةً بتصرف.
التَقطت محادثة عبر برنامج سكايب، القصف المدفعي الذي قتل المراسلة الحربية الأميركية، ماري كولفين، في 22 شباط/فبراير 2012، حيث التقطت أصوات القذائف وتدافع الناس بحثًا عن ستار يحتمون به، وصرخات الألم، ثم صوت عالٍ يقول: "لقد ماتت".
كشفت تسجيلات ووثائق عن أن النظام السوري استهدف عن عمد قتل الصحفيين الأجانب في سوريا والمدنيين السوريين الذين يساعدونهم
ولاحقًا في اليوم نفسه، وفقًا لما ذكره أحد المعارضين السوريين المنشقين عن النظام، فقد أعرب ضابط مخابرات عسكري كان قد أمر بمراقبة وقصف الصحفيين، عن ارتياحه الشديد، قائلًا: "كانت ماري كولفين كلبة، وهي الآن ميتة. فليساعدها الأميركيون الآن إن استطاعوا".
اقرأ/ي أيضًا: جحيم الحرب السورية.. انتكاسة أوروبا الأخلاقية
تعد المحادثة ورواية المعارض السوري، من بين مجموعة من المواد التي قدمها محامو عائلة ماري كولفين إلى قاضية في واشنطن، في قضية رفعوها في عام 2016 ضد الحكومة السورية وتسعة مسؤولين أمنيين سوريين. وقامت إيمي بيرمان جاكسون، القاضية بالمحكمة الفيدرالية للمقاطعة، بالكشف عن بعض ملفات الدعاوى، قبل أيام.
ويقول المحامون، إن هذه التسجيلات تُقدم حتى الآن، أقوى الأدلة على استهداف قوات النظام السوري، للمراسلين الأجانب الذين يوثقون فظائع الحرب السورية، وكذلك استهدافها للمدنيين السوريين الذي يساعدون الصحفيين في أداء عملهم.
ملفات الدعاوى، والتي يبلغ مجموعها 200 ملف تقريبًا، هي جزء من مجموعة أكبر بكثير تبلغ 700 ألف ملف تم تهريبها من سوريا، بواسطة نشطاء معارضين، وجمعت بدقة من قبل لجنة العدالة والمساءلة الدولية، والتي ترغب في رفع قضايا ضد الحكومة السورية، تتعلق بارتكاب جرائم الحرب.
يقول سكوت غيلمور، محامي عائلة ماري كولفين: "تسمح لنا هذه الوثائق بإعادة بناء نموذج التخطيط السياسي الأوسع، والذي حدد العاملين في الإعلام كأهداف منذ وقت مبكر جدًا من الحرب السورية"، مضيفًا: "كما أنها تحدد هيكل القيادة والرقابة، وتكشف أمورًا لا يعرفها حتى الخبراء في الشأن السوري".
ومن المستحيل التحقق من تلك الوثائق بشكل مستقل، لكن العديد من الخبراء، منهم دبلوماسيون ومسؤولون حكوميون وباحثون أكاديميون، أيدوا عمل اللجنة التي أسسها ويليام وايلي، وهو محقق كندي متخصص في جرائم الحرب.
وكانت ماري كولفين، من نيويورك، وفي الـ56 من عمرها عند وفاتها، قد عايشت العديد من الحروب والصراعات. وكانت تراسل صحيفة صنداي تايمز أوف البريطانية، وتغطي لها الحرب السورية.
وفي نفس الغارة التي قتلت فيها ماري كولفين في حي بابا عمرو بمدينة حمص، قتل أيضًا المصور الصحفي الفرنسي المستقل ريمي أوتليك، وكان في الـ28 من عمره.
ويعتبر النظام السوري أن الصحفيين العاملين في المناطق الخارجة عن سيطرته، مثل كولفين وأوتليك، قد انتهكوا القانون. بل إن بشار الأسد، قال لشبكة "إن بي سي نيوز"، في مقابلة أجرتها معه في 2016: "إنها حرب، وماري كولفين قد دخلت إلى سوريا بشكل غير قانوني، وعملت مع الإرهابيين، ولأنها جاءت بشكل غير قانوني، فهي مسؤولة عن كل ما أصابها"، نافيًا استهداف ماري كولفن.
وتُظهر إحدى الوثائق كيف تجسست القوات العسكرية والأمنية على الاتصالات بين الصحفيين والنشطاء. كما قام ضباط المخابرات بنقل معلومات عن أحد صحفيي الجزيرة إلى وحدة قوات خاصة عسكرية، مع تعليمات باتخاذ "الإجراءات اللازمة".
ويستشهد المحامون كذلك بعدد من إفادات شهود أُخذت بعد القَسم، أحدها من أحد المنشقين عن النظام السوري، أطلق عليه المحامون اسم "عوليس"، سجّل التصريحات المهينة من قبل ضابط مخابرات تابعٍ للنظام السوري بحق كولفين. وهذا الضابط هو اللواء رفيق شحادة، أحد أقرب المقربين لعائلة الأسد، وكان حارسًا شخصيًا لحافظ الأسد، وقد عيّنه الأسد قائدًا عسكريًا للمنطقة الشرقية منذ 2017، قبل أن يقيله من الخدمة مطلع 2018.
وقال "عوليس"، الذي لا يزال في المهجر، إن جيش النظام السوري، أمر بالهجوم على ماري كولفين وزملائها ضمن مخطط أوسع، وبأمر من الجهات العليا وكما هو مُبين في الوثائق، لتتبع واعتقال واستهداف المتظاهرين والمنسقين و"الذين يشوهون صورة سوريا" وفق رواية النظام، عبر التحدث إلى الصحفيين والأجانب الآخرين.
قال المنشق عن النظام السوري "عوليس"، إن نظام الأسد أمر باستهداف الصحفية الأمريكية ماري كولفين وزملائها ضمن مخطط أوسع لاستهداف الصحفيين الأجانب
وشهد عوليس كذلك بأن علي مملوك، رئيس جهاز الاستخبارات السوري، تلقى معلومات من "مسؤول لبناني صديق" مفادها أن صحفيين أجانب كانوا يعبرون الحدود السورية للوصول إلى حمص. وأوعز إلى قائد اللجنة الأمنية العسكرية "بالقبض على الصحفيين" و"اتخاذ جميع التدابير اللازمة"، وهذه العبارة تعني وفقًا لعوليس "ضوء أخضر بالقتل إذا لزم الأمر".
اقرأ/ي أيضًا: "صديق إسرائيل" أمينًا عامًا لجامعة الدول "العربية"
وبدا أن شاهدين إضافيين يؤكدان على هذه الاستراتيجية، أحدهما هو عبد المجيد بركات، مدير معلومات سابق في خلية إدارة الأزمات المركزية، والذي انشق عن النظام السوري في نهاية المطاف.
رأى بركات الوثائق التي تعتبر السوريين الذين يقدمون معلومات للصحفيين، "أكبر تهديد للأمن القومي" ويتطلب "ردًا قاتلًا". وقال بركات إنه سمع عن نقاشات تتعلق بخطط لتلفيق أدلة تتهم المعارضة بمهاجة بعضها البعض.
وقد انشق بركات عن النظام، قبل عدة أسابيع من استهداف ماري كولفين، وذلك عندما أدرك "عدم وجود نية للإصلاح"، كما يقول. وفر من سوريا مع "USB" ووثائق ورقية مربوطة إلى جذعه تحت ملابسه.
وقال الشاهد الآخر، وهو أنور مالك، عضو جزائري في بعثة مراقبة تابعة للجامعة العربية، إنه استقال من المهمة بعدما أيقن بأن أعضاء البعثة يعملون كعملاء للنظام السوري، ويزيلون الأدلة التي تشير إلى هجمات النظام على المدنيين من التقارير، ومن بينها قضية مقتل صبي في الخامسة من العمر قُتل بواسطة رصاص قناص.
وصف مالك المحادثات التي جرت في حمص في تشرين الثاني/يناير 2012، مع أحد أعضاء لجنة الأزمات، وهو آصف شوكت، نائب وزير الدفاع وصهر الأسد، قتل بشكل ملتبس في تموز/يوليو 2012. وقال مالك إن شوكت أخبره بضرورة "قتل المدنيين" من أجل هزيمة من أسماهم "الإرهابيين"، وبأنه "كان ليدمر بابا عمرو في 10 دقائق لولا كاميرات الفيديو"، وبأن الصحفيين الأجانب الذين ينقلون الأخبار من بابا عمرو هم "عملاء" لإسرائيل وبلدان أخرى ويجب استهدافهم.
وأضاف شوكت لمالك: "بالنسبة لنا هم إرهابيون، وأهداف لدوائرنا العسكرية وقواتنا الأمنية". وعندما علم شوكت بزيارة مالك للمركز الإعلامي الذي استهدف لاحقًا، ضغط عليه ليخبره بموقعه تحديدًا، لكنه رفض.
وبعد فترة وجيزة، خلص مالك إلى أن مهمته مُخترقة، فاستقال. وقد تلقى مالك، وفقًا له، تهديدًا بالقتل عبر الهاتف في غرفته بفندق في حمص، كما أطلقت النيران على موكبه المتجه إلى دمشق، وحينها ألقى النظام السوري باللوم على المعارضة المسلحة، لكن مالك يُصر أن النظام هو من دبر الهجوم.
لاحقًا، وبعد أقل من شهر، قام نشطاء سوريون بإحضار ماري كولفين رفقة وصحفي استقصائي بريطاني واسع الشهرة هو بول كونروي، من خلال أنبوب مياه بعرض أربعة أمتار. يقول عوليس إنه بعد ذلك بفترة قصيرة، أخبر أحد العملاء مسؤولي المخابرات أن الصحفيين كانوا في المركز الإعلامي للناشطين، ووصفوا موقعه التقريبي. وقال الصحفي البريطاني كونروي، للمحامين، إن القصف كان "رهيبًا وبلا رحمة" وأنه "الأكثر شدة فيما رآه على الإطلاق".
وفي 21 شباط/فبراير، أطلقت ماري كولفين تقريرًا حيًا من المركز الإعلامي عن محنة المدنيين. وقد سمح هذا للنظام، على حد قول عوليس، باستخدام معدات المراقبة لتحديد الموقع، ومطابقة تقرير العميل. ذكر عوليس قول نائب رئيس قسم الكمبيوتر والإشارات في الفرع "261" التابع لقسم المخابرات العسكرية في حمص: "كان هناك بث الليلة من نفس الموقع". ثم أضاف المسؤول: "الزعيم سعيد للغاية".
أضاف عوليس أن ماهر الأسد، شقيق بشار الأسد، كان من بين من أشرفوا على العملية، وهو كذلك قائد الفرقة الرابعة للحرس الجمهوري وعضو في لجنة إدارة الأزمات. وصباح اليوم التالي تغير نمط القصف. فبدلًا من موجات القصف التي شملت جميع أنحاء الحي، تناوبت الضربات على كل جانب من المنزل الذي يتواجد فيه المركز الإعلامي، مقتربة في كل مرة.
وبعد هذه موجات القصف هذه تلقى المنزل ضربة مباشرة. ففي مكالمة على سكايب، شملت ناشطين إعلاميين سوريين وصحفي من قناة الجزيرة، يمكن سماع صوت كونروي وهو ينادي: "لا أستطيع التحرك! أحتاج إلى عاصبة لإيقاف النزيف". ترنح كونروي إلى الخارج ورأى أن كولفين وأوتليك من بين القتلى. يقول: "كان رأسها مدفونًا في الخرسانة ورجليها تحت الركام".
شهد عضو سابق في بعثة مراقبة إلى سوريا تابعة للجامعة العربية، أن أعضاء من البعثة كانوا يعملون عملاء للنظام السوري!
في حمص، سرعان ما تمت ترقية اللواء شحادة ليرأس قسم الاستخبارات العسكرية للبلاد بأسرها. وتلقى خالد الفارس، قائد مليشيا موالية للحكومة، مسؤولية زرع مخبرين في بابا عمرو، سيارة فخمة كهدية من شقيق الأسد.
اقرأ/ي أيضًا: