في شريط وثائقي لا تتجاوز مدته الـ 52 دقيقة، عن الممارسات الداخلية للجيش المصري، أنتجته وأخرجته قناة "الجزيرة"، قامت الدنيا ولم تقعد. واشتعلت برامج الـ"توك شو" في مصر، وتحدث الجميع عن الفيلم الذي "يسيء" للجيش المصري وسمعته و"يسيء للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة"، وفق ما قال البعض. ويتحدث الفيلم عن ممارسات يعرفها المصريون جيدًا، تجري داخل أروقة الجيش. توثيق لعمليات "الإذلال والقهر"، التي تنفذ بحق المجندين من الضباط أو أصحاب الرتب الأعلى.
وثائقي "العساكر" يعرض حالات القهر والإذلال بحق مجندين في الجيش المصري
عرض الفيلم وجهات نظر من داخل المؤسسة العسكرية، وأظهر "تبريراتهم" لما يحدث، كما مرّ عبر عدد من جنود الصف والاحتياط من الضباط، وسألهم عما يعني لهم الجيش في حياتهم العامة وهم ضمن صفوفه بعد انتهاء فترة التجنيد. الجنود لا يتعلمون الفنون القتالية في الواقع وكل ما هم بصدده "تكدير" جسدي قد يصل إلى الحبس والحرمان من الإجازة، هذا ما نكتشفه، عبر الشريط. كما يتناول استخدام أفراد الجيش في إدارة المشروعات الخدمية مثل الإنتاج الداجن والإنشاءات والتعدين والخدمات العامة والمتخصصة.
كل ما فعله فيلم "العساكر"، هو أنه رص حقائق معروفة للرأي العام المصري إلى جوار بعضها البعض وأقام لها هيكلًا فنيًا جيدًا. أما عن الجديد فهو لم يأتِ بجديد. فقد دخل الجيش كل بيت مصري به ذكر بلغ 18 عامًا، وتعرض 100% من المصريين الذكور المؤهلين إلى اختبار التجنيد، الأمر الذي يجعل ما جاء بالفيلم ليس جديدًا.
اقرأ/ي أيضًا: مذكرات عسكري غلبان: قواعد الجيش
أما ما قد يثير حفيظة النظام في مصر فهو أن الجهة التي عرضت الفيلم هي قناة "الجزيرة"، وهي أكثر الوسائل الإعلامية العربية، التي استطاعت إحراج النظام المصري العسكري، من خلال الوثائق والحقائق وبمواضيع مختلفة.
على المستوى الفني، هناك أفلام تميزت بحس صحفي أعلى بكثير من فيلم "العساكر" وهو فيلم "موت في الخدمة"، الذي تميز ببحثه الاستقصائي العميق (عرضته قناة بي بي سي)، وذلك من خلال تحقيق استمر عامين كاملين للوقوف على حقيقة حالات الانتحار التي يقوم بها عساكر الأمن المركزي، والتي تشير العديد من الدلائل التي قادها الفيلم إلى تورط ضباط في القتل، منهم من وصل بالفعل إلى المحاكمة ولكن تمت تبرئته في النهاية.
فيلم "موت في الخدمة"، عمل على حالات فعلية من "القتل"، تم توثيقها على أنها حالات انتحار، تناول منها 13 حالة في معسكرات الأمن المركزي المصري. لم تترك أي حالة منها رسالة انتحار واحدة. وتم طي هذه القضايا بعد تحقيقات وجيزة، بعضها لم يستمر أكثر من أسبوع واحد.
فيلم "موت في الخدمة" يوثق حالات قتل عساكر من قبل ضباط مصريين بعد وضعها في خانة الانتحار
إحدى الحالات كانت لحسن يحيى محمود، المجند الآتي من مدينة المنيا والذي يخدم في معسكر الأمن المركزي فيها. تم تصويره وهو يرقص في عرس إحدى قريباته ثم وبعد 36 ساعة من تصويره في العرس، أعلنت وزارة الداخلية أنه انتحر شنقًا. ووفق وثائق وزارة الداخلية، تم نقل حسن إلى أحد السجون داخل المعسكر عقابًا له على تأخره في العودة إلى المعسكر، وهناك حدثت مشادة بينه وبين سجناء آخرين نقل بعدها إلى زنزانة انفرادية وُجد إثرها مشنوقًا. وفقًا لروايات أهله كان حسن شابًا مقبلًا على الحياة وكان قد خطب ابنة خاله بالفعل ويجهز للزواج.
حسن الشرقاوي، أحد العساكر الذين أشارت الداخلية إلى محاولته قتل نفسه عن طريق ضرب نفسه بالمسدس جهة الرأس. لكن حسن لم يمت وظل يصارع الموت 72 يومًا. وقد سجل له أهله مقطعًا مصورًا يشير فيه بيده إشارات تؤكد تعرضه للقتل عن طريق وضع "السلاح" في فمه. حسن كان فاقدًا للقدرة على الكلام ولم تأتِ أي جهة رسمية للتحقيق عندما كان الشاب على قيد الحياة.
اقرأ/ي أيضًا: العسكر والإرهاب.. ثنائية هدر الإنسان المصري
الفيلمان أظهرا ما هو مسكوت عنه في أكثر المؤسسات السيادية التي يحاول النظام دومًا أن يظهر قوتها للرأي العام فهي ذراعه التي يبطش بها. ولكن فيلم "العساكر" استحوذ على الشهرة والانتباه الإعلامي لأنه وضع يده في "عش الدبابير"، ألا وهو الجيش المصري. كما أن الجهة التي أخرجته آلة إعلامية لطالما كانت على خلاف مع النظام ولطالما كشفت عوراته فلم يكن التحرك مقبولًا، ولكن بنظرة متعمقة للفيلم، جاء الشريط عاديًا حتى الشهادات التي جاءت من قبل معسكرات التجنيد لم تتناول قضية أو قصة واضحة المعالم، فجاء التناول باهتًا بعض الشيء.
أما فيلم "موت في الخدمة"، فقد كان متأنيًا وواضحًا. يعرض للرأي العام المصري وثائق مثبتة على قضايا بعينها، عاد ليفتح التحقيق فيها من جديد بطريقة صحفية جادة وأكثر احترافية. واقترب الفيلم من الحقائق في كثير من القضايا التي عرضها، وخاصة في قضية المجند أحمد حسني التي عرض فيها الضابط المتهم، الدية على أهل المجند فرفضوا وصمموا على المحاكمة، وتم إدانة الضابط محمد حسن بتهمة القتل وحوكم بخمس سنوات، ولكنه بقي ضابطًا بالخدمة.
اقرأ/ي أيضًا: