يستدرجنا وليد السابق (1970) في روايته الجديدة "ما بعد الخطيئة الأولى" (دار الآداب، 2017) إلى متاهة أدبية محكمة، مبنية على افتراضات لا تنفكّ تطاردنا أثناء القراءة، في بيئة غامضة يولّد فراغها الخوف الذي سوف يشكّلُ، عدا عن الغربة بمعانيها المتعدِّدة، أحد الخيوط الرئيسيّة للرواية المتراوحة في ذلك الفراغ، ما بين الصمت تارةً، والصخب طورًا.
يبني وليد السابق روايته "ما بعد الخطيئة الأولى" على شكل متاهة من الافتراضات
رواية "ما بعد الخطيئة الأولى" التي تتداخل أحداثها ما بين عوالم موازية وأخرى واقعية، كُتبت بلغة مجازية مليئة بالإشارات التي تستدعي قدرًا من الإدراك واليقظة، كونها تتقدّم لاحقًا وفقًا لمنطق سردي يأخذ أشكالًا مختلفة ومعقّدة.
اقرأ/ي أيضًا: أصل العالم.. رجل قتلته امرأة نصف عارية
تنطلق رواية "ما بعد الخطيئة الأولى" من قاعة امتحانات فارغة يلفُّها الخوف الذي لا ينفكّ يطارد بطلها جابر. الخوف الذي يدفعهُ إلى مغادرة القاعة، هو ذاته الذي سوف يدفعهُ إلى الهرب من المدينة، بعد أن فقدت، في عينيه، ما يدلّ على أنّها كانت مسرحًا لحياة وصخب مجموعة من البشر، متحوّلةً إلى مدينة مسكونة بالصمت والرعب والبؤس. سنعرف لاحقًا أنّ المدينة ذاتها، مجهولة الاسم والزمان والمكان، ليست خاليةً من البشر، كما يتراءى إلى جابر، وأنّ رؤيته لها بهذا الشكل الذي أحالها، مؤقّتًا، إلى مساحات شاسعة من الفراغ والخواء، تنهضُ على شخصيته المنطوية على حياة مضطّربة وغير مستقرّة، تجسّدُ معاناتهُ مع شعوره بالغربة عن نفسه تارةً، وعن المكان المتواجد فيه تارةً أخرى. هذا الشعور الذي يُحاصر جابر بثنائيات متضادّة، وينقّلهُ بينها، كالخوف والشجاعة، الضعف والقوّة، الذروة والحضيض؛ دفعهُ إلى الهرب ليجد نفسه يسيرُ خلف كلب يقودهُ إلى نهايته الواقعة خلف بوابة خشبية عملاقة، يدخلها مدفوعًا بمشاعر متراوحة بين الخوف والرغبة في اكتشاف المكان الذي ظهر فجأة.
لم يَدُرْ في بال جابر وهو يدخل البوابة الخشبية أنّ حياته سوف تنتهي داخلها، ويصيرُ، بعد أن كان مُحاطًا بالفراغ والخوف، مُحاصرًا بالنهاية التي تقودهُ إليها حيواته الثلاث، تلك التي نشأت بديلًا عن حياته الأساسية، وسارت بمشيئة الرجل العجوز الذي لا نعرفُ عنه شيئًا، غير أنّه المُمسك في ذلك العالم الموازي بمصائر الآخرين. وبالتالي، نحن الآن إزاء شخصية منتزعة من حياتها الأساسية، وموزّعة على ثلاث حيوات متتالية ومُشبعة بالرعب والأسى والبؤس والمتضادات، تؤجّل الواحدة منها نهاية سابقتها، ويسرن معًا بجابر إلى البوابة الخشبية في كلّ مرّة، حيث تقبع نهايته.
تبدأ حياة جابر الأولى من حيث انتهت حياته الأساسية، وتنهض على فكرة مفادها أنّ التفاصيل الصغيرة، حين تتغيّر وفقًا لإرادة الإنسان، تغيّر حياته بأكملها. إذ إنّ رفض جابر اللحاق بالكلب، هذا الحدث غير الملفت للانتباه، يؤجّل نهاية حياته، ويفتح لهُ أُفقًا لحياة جديدة يكتشفُ فيها أنّه كائنٌ غير مرئيّ للآخرين، بعد أن طُرد من سكنه الجامعي، واستهلكتهُ شوارع المدينة وحدائقها العامّة ذهابًا وإيابًا، بحثًا عن مأوى. سنكتشف أيضًا أنّ اختيار صاحب "أصل العالم" للمدينة لتكون مسرحًا لأحداث روايته لم يأت من فكرة عابرة أو مرتجلة، وإنّما انطلاقًا من كونها مكانًا يُعرف بقسوته على الوافدين إليه من المناطق الريفية، الأمر الذي وفّر بيئة ملائمة للرواية تتماشى مع سوداويتها وتطلعات كاتبها.
عاد جابر في حياته الثانية كائنًا مرئيًا لهُ حيّز مادّي يدلّ على وجوده. في هذه الحياة التي بُنيتْ على افتراض الرجل العجوز بأنّ جابر لم يُطرد من السكن الجامعي، تخرّج جابر وعاد إلى قريته مبتعدًا عن سطوة المدينة، ولكنّهُ ما لبث أن عاد إليها بعد وفاة والدته. سيتزوّج جابر في المدينة ويجد عملًا يُطرد منه لاحقًا، ليعود من جديد إلى غربته، مُطلقًا العنان إلى شخصيته المنطوية على اضطّرابه بالعودة إلى واجهة السرد مجدَّدًا بعد أن توفّي ابنه وهَجَرته زوجته. وهنا، تقودهُ شخصيته المُضطّربة تلك إلى البوابة الخشبيّة، حيث تنتهي حياته المفترضة لتبدأ أخرى بدلًا منها بسيناريوهات مختلفة.
التفاصيل الصغيرة، حين تتغيّر وفقًا لإرادة الإنسان، تغيّر حياته بأكملها
شكّلت وفاة والدة جابر إذًا الحدث الأبرز في حياته الثانية، إذ إنَّ ما تلاها من أحداثٍ وحكاياتٍ تناسلت منها. هنا، سوف يفترض الرجل العجوز أنَّ تلك الوفاة لم تحدث، لتنهض حياة جابر الثالثة، والمُفترضة في أساسها، بناءً على هذا الافتراض، بوقائع مُتشابكة، وأحداث متداخلة فيما بينها، تنقلُ جابر من الهامش إلى المركز، ومن الحضيض إلى الذروة، دون أن يفارقه شعوره بدونيته عن الآخرين، إذ إنَّ امتلاكه جزءًا من سُلطة منحتهُ إياها رئيسة جامعته سابقًا، وزيرة التعليم العالي فيما بعد، وبعد إنقاذه لحياتها، لم يُغيّر من شخصيته ما يُذكر، إنّما ضاعف من شعوره، وبعد علاقة الحب التي تنشأ بينه وبين الوزيرة، بالفوارق الطبقية والمجتمعية بينهما، متحوّلًا من شخصية مُضطّربة إلى أخرى أشدّ اضطّرابًا، متأرجحًا بين حبّ السلطة ورفضها، إذ إنّها تقف حاجزًا بينه وبين الوزيرة، كون سلطته ليست إلّا امتدادًا لسلطتها.
اقرأ/ي أيضًا: 5 روايات سورية من إصدارات 2017
يُنهي جابر حياته تلك بقتله للوزيرة بعد شكّه في خيانتها له مع أحد رجال السلطة الأعلى شأنًا وأرفع مكانةً منه، ويسيرُ بعد ذلك إلى نهايته غير عابئ بما حدث ويحدث. نهايته التي لن يؤجّلها الرجل العجوز هذه المرّة.
سعى وليد السابق في روايته هذه إلى النفاذ إلى النفس البشرية المُتداعية، ورصد معاناتها وغربتها عن ذاتها، واستعراض مآلات تلك الغربة وتبعاتها من خلال جمعه لكلّ ما يودي بها إلى نهايتها.
اقرأ/ي أيضًا: