بينما تُطبِق الدولة الفرنسية قبضتها القمعية على الصراع، في محاولة لطمس وجود الحركة الاحتجاجية التي عصفت بالبلاد خلال الأسابيع الماضية، بالقمع في الشارع وحملة الاعتقالات التي طالت صفوفها؛ يتفنن الخطاب الإعلامي الرسمي الفرنسي في تغطيته لانتفاضة السترات الصفراء، برسم صورة للحركة كمجموعة تخريبية تهدد النظام العام، وتصويرها كبعبع يهدد بقاء المواطن البسيط بتهديد المعتاد من سير حياته.
تخلق حركة السترات الصفراء هامشًا بديلًا للمقاومة الإعلامية، على دفة صناعة الخبر، تستحدث وسائلها الممكنة لكشف ما يخفيه الإعلام الرسمي
وتبدو عملية التشويه هذه ممنهجة، وقد غاصت أسبابها عميقًا في تداخل المال والسلطة، ومن ذلك تنكشف لنا معالم عملية التشويه هذه. وفي المقابل، تخلق حركة السترات الصفراء الاحتجاجية هامشًا بديلًا للقاومة الإعلامية، على دفة صناعة الخبر، تستحدث وسائلها الممكنة لكشف ما يخفيه الإعلام الرسمي.
اقرأ/ي أيضًا: لماذا كل هذا الحقد الإعلامي على "السترات الصفراء" عربيًا؟
صناع الإعلام والإليزيه
عرف سوق الإعلام في فرنسا، في العقد الأخير، موجة احتكار شرسة، حيث تتركز 90% من الشركات الإعلامية في البلاد، في يد 10 مليارديرات فقط، من جملتهم برنار آرنو وسيرج داسو و كزافييه نييل وغيرهم من أصحاب الأموال.
10 مليارديرات يتحكمون في سوق الإعلام بشكل شبه كامل، وتربطهم بسادة الإليزيه المتعاقبين علاقات وثيقة، تتراوح بين صداقات حميمة، ودعم مالي للوبيات داخل الجمعية العامة الفرنسية. وليس عهد ماكرون بمعزل عن هذا الوضع، بل يؤكده بالملموس، إذ يتجلى في المقاربة الإعلامية التي تمت بها معالجة أحداث الاحتجاجات الأخيرة.
وتحكم العلاقة بين الدولة في فرنسا ووسائل الإعلام الكبرى، المنفعة القائمة على إعادة إنتاج الربح، في صورته السياسية من جهة الإليزيه والاقتصادية من جهة رجال الأعمال الـ10..
"Vécu" الإعلام الأصفر
في المقابل، يبزغ البديل من حركة السترات الصفراء؛ في وجه محاولات التعتيم على واقع الداخل الفرنسي، متمثلًا في "Vécu"، أو "مُعاش" بالعربية. وهي صفحة على فيسبوك، يعرفها صاحبها غابان فورمون بأنها تمثل "صحافة حرة تكشف الحقائق"، واضعًا إياها على نقيض الصحافة الرسمية التي "دبأت طيلة تغطيتها في للوقوف بجانب السلطة ضد الشعب".
"لاحظت أن ما يقدمه الإعلام الفرنسي، في معظمه، تحوير للخبر بحيث يكون في خدمة طرف واحد"، يُصرح غابان فورمون مؤسس Vécu لـ"ألترا صوت". وغابان شاب باريسي، كان يعمل مقاولًا قبل أن يفشل في مسيرته المهنية.
انضم غابان لحركة السترات الصفراء منذ يومها الأول، مدفوعًا بما يعايشه الفرنسيون أمام احتكار رأس المال، وقد عانى غابان ذلك في عمله، إذ لطالما واجهته عقبة الاحتكار التي أفشلت مشاريعه الصغيرة، كما قال.
لذا، وكما أوضح، كانت الاحتجاجات فرصته للتعبير عن احتجاجه الشخصي على واقعه القسري، ومن هنا جاءته فكرة صفحة Vécu، باعتبارها صحافة بديلة عن الصحافة والإعلام الرسمي، تقترب من الشارع أكثر من اقترابها من شروط التجارة الربحية.
لم يكن لغابان أي علاقة بالصحافة قبل إنشاء هذه الصفحة، لكن الدافع كان، كما قال: "وددتُ أن أكون صوت المقموعين مثلي، فكل وسائل الإعلام لا تتحدث إلا عن العنف الذي مورس ضد البوليس والممتلكات، بينما الكل يهمل عمدًا الويل الذي ذاقه أفراد الحركة من البوليس".
وأضاف: "وعليه عمدت لأن أنشئ منبرًا يكشف مدى دموية القمع الذي مورس ضدنا، وأن يكون منصة تجهر بصوت الجرحى ومبتوري الأيدي والسيقان الذين خلفهم عنف الشرطة".
ما لا يظهره الإعلام الفرنسي
خلال البحث عمَّا يقبع وراء خطاب التعتيم الذي يديره الإعلام الرسمي الفرنسي، برزت شهادات عدة من الجانب الآخر، وهي شهادات لن تُوجد على الأرجح على البث اليومي لإذاعة "Franceinfo"، ولا على صفحات جرائد "Le monde" أو "Le figaro".
ومن بين هذه الشهادات، شهادة أنطونيو باربيطا، الذي تعرض للإصابة في 24 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي. وباربيطا، شاب فرنسي، وعامل مؤقت بإحدى الشركات الفرنسية. وبتعريفه لنفسه، فهو من الذين "يقيمون على هامش النظام الاقتصادي الأوروبي".
يروي أنطونيو لـ"ألترا صوت"، كيف تعرض للإصابة: "كنا في مظاهرة في إحدى الشوارع المتفرعة من الشانزليزيه، لمّا هجمت علينا الشرطة الفرنسية بعنف. وبينما نحن نركض في الاتجاه المعاكس، نبهني بعض المتظاهرين إلى أنني أنزف بغزارة من قدمي. لحظتها اكتشفتُ أنني أصبت".
ونجمت إصابة أنطونيو عن تلقيه قنبلة صوتية من نوع "GLI F4"، مباشرة في قدمه اليسرى. ويُذكر أن هذا النوع من القنابل محرمة أوروبيًا كونها تسبب عاهات مستديمة لمن استعملت ضده، ووحدها فرنسا التي لازالت تعتمدها لقمع المحتجين.
"لمّا حُملت إلى المستشفى تم إخباري بأنني تلقيت قنبلة 4GLI F، نفسها القنبلة التي قتلت سنة 2011 متظاهرًا اسمه ريمي فريس. فرنسا تستعملها لحد الآن لقمعنا"، يحكي أنطونيو، مضيفًا:"كنا متأكدين بأنهم سيقومون بقمعنا، كما سمعنا في الإعلام أن الشرطة ستنزل لمواجهة المخربين، الذين هم نحن؟ أؤكد لكم أننا كنا فقط رجال ونساء فرنسيين يتظاهرون سلميًا من أجل حقوقهم، وهذا ما تمت مكافأتنا به".
ومن هذا المنطلق تتأسس قناعة أنطونيو، وغيره من أفراد السترات الصفراء، بأن الإعلام الرسمي لا يمثل إلى تظليلًا ممنهجًا ضد حراكهم المشروع.
"بالنسبة للإعلام الفرنسي في مجمله تظليل في تضليل، يحاولون إقناع الرأي العام بأننا نشكل خطرا على سلم المواطنين وحياته، هذا كله لتبرير دموية القمع الذي يواجهوننا به في الشارع. ولهذا أنا ضد هذا الإعلام، ولا يهمني التعاطي معه" يصرح الشاب الفرنسي، والذي دفع ثمن مطالباته المشروعة بحقوقه إصابة ستلحقه آثارها السلبية طول حياته.
الحاجة للإعلام بديل
ختم باربيطا حديث لـ"ألترا صوت"، بالتشديد على حاجة السترات الصفراء لإعلامها الخاص "البديل الذي ينشر صوتها للعالم مواجهًا التضليل الذي ينهال علينا من وسائل إعلام أخرى".
تجسدت هذه الحالة في صفحة Vécu، التي تركز موادها على كل ما يهم الحركة الاحتجاجية، من تكوين قاعدة بيانات لرصد حالات القمع الذي تواجه السترات الصفراء، والإعلان عن تحركاتها المنظمة، وأشكالها النضالية المقررة للاستمرار من أجل مطالبها.
لا يمثل الإعلام الرسمي في فرنسا، في تعاطيه مع احتجاجات السترات الصفراء، إلا تضليلًا ممنهجًا ضد الحراك الاحتجاجي المشروع
في غضون 15 يومًا، وصل عدد متابعي الصفحة لقرابة 11 ألف متابع، مع تفاعل جيد مع تغطيات الصفحة وتدويناتها، ما يبرز الاحتفاء بها، الأمر الذي يؤكده مديرها، غابان فورمون، قائلًا: "الناس هنا فرحون لاكتشاف إعلام يتحدث عنهم، يحكي قصص الجرحى والمصابين، والمهمشين من طرف الإعلام الرسمي"، مستطردًا: "منذ أن نشرت أول المواد عليها، صرت أتلقى عشرات رسائل الدعم يوميًا، هذا ما يشجعني أكثر للاستمرار في هذا العمل".
اقرأ/ي أيضًا:
احتجاجات عالمية على شروط معولمة.. السترات الصفراء أطلقت الشرارة
أبناء الجوع.. بربرية فرنسية وإرهاب عربي!