تابعت بشغف مسلسل "لعبة العروش - Game of Thrones"، وتفاعلت مع أحداثه وشخصياته الكثيرة والمتجددة، واندمجت بشدة مع أبطال العرض التلفزيوني، الذين أحبهم حينًا وأكرههم أحيانًا، وأعجبتني بشدة طريقة رسم المؤلف للشخصيات وتداخلاتها، والاختيارات الصعبة التي يضعنا داخلها في كل حلقة.
من تابع المسلسل سيعرف بكل تأكيد "الملك المجنون"، ولمن لم يشاهد المسلسل، فهو ملك قامت ضده ما يشبه الثورة للإطاحة به وبحكمه. كان ظالمًا وقاسيًا، وغبيًا في نفس الوقت. كانت جملته المفضلة "احرقهم جميعًا"، فلا مشكلة لديه أن يحرق جميع أعدائه أو معارضيه أو حتى الشعب كله، في مقابل أن يبقى في السلطة ويتربع فوق العرش الحديدي.
تغيّر السلطة من طبيعة النفس، وتجعل من صاحبها آمرًا ناهيًا بلا جدال، والمأمورون ليس لهم حق الرفض أو حتى النقاش
هناك أيضًا شخصية "ثيون جريجوي"، وهو شخص وقع في الأسر صغيرًا وتربى مع أناسٍ ليسوا بأهله لكنهم عاملوه كفرد منهم، حتى حانت له فرصة العودة لعائلته الأصلية، وانقلب على من تولوا تربيته في الصغر، واستغل انشغالهم بالحرب واستولى على قلعتهم بعددٍ قليل من الجنود، وطاح في الجميع جورًا، وسعى إلى كل فعل يجعل الرعية يحترمونه ويخشونه بلا قيد أو حدود، حتى دفعه غروره لحرق طفلين ووضعهم في الطرقات العامة كي يراهم الرعية ويتخذونهم عبرة.
اقرأ/ي أيضًا: Game of Thrones.. موسم جديد بارد
وفي فيلم "القلعة الأخيرة - The Last Castle" الذي دارت أحداثه داخل سجن عسكري مأموره شخص صلد يدير السجن بالعنف والانتهاكات الجسدية والنفسية لقمع المساجين وإخضاعهم لقراراته؛ كان هذا المأمور على استعداد لقتل جميع السجناء ولا يعلن للقيادة التي تعلوه فشله في إدارة السجن، ولديه من الكبرياء ما يدفعه لممارسة كافة التجاوزات بما فيها إزهاق الأرواح البشرية.
وفي فيلم "التجربة - The Experiment" المقتبس عن تجربة نفسية حقيقة، معروفة باسم "تجربة سجن ستانفورد"، والتي على أساسها تم تقسيم أفراد الاختبار إلى سجّانين ومسجونين على أُسس معينة، ونُفّذت محاكاة واقعية للسجون بحيث يملك السجّان اليد العليا في إدارة السجن وحفظ الأمن. ومنذ اليوم الأول شعر المساجين بالاضطهاد والتمييز ضدهم، وامتعضوا من المعاملة السيئة التي يلقونها على الرغم من أنه محض اختبار يخضعون له بإرادتهم الحرة، وقد تلبس السجّان شبح السيطرة في قمع المساجين وسعيهم لإفشاله والتمرد عليه، حتى أن التجربة لم تكتمل بسبب وقائع عنف حدثت بين الطرفين!
كنت أتساءل دومًا عن طبيعة السلطة وما تفعله بالبشر، وما الذي يجعل الإنسان يتغير بشكل جذري حال امتلك سلطانًا على غيره من البشر؟ وعندما كنت مجندًا في صفوف الجيش المصري، كانت تتردد جملة على لسان الجنود باستمرار، تشير إلى سوء طبيعة ما أسموه "حكم النفس على النفس"، فنحن الجنود نتلقى الأوامر باستمرار، وليس لنا حق الرفض والاعتراض أو المناقشة في طبيعة تلك الأوامر وعدالتها، ولدى كل مجموعة قائد/ نفس يحكم على باقي الأفراد/ النفوس ويخضعهم لسلطانه وأوامره مهما تطلب الأمر. ومن سوء حظي أن فترة تجنيدي جاءت مباشرة بعد أحداث رابعة العدوية بفترة بسيطة، وفي تلك المرحلة لم تكن هناك مساحة للاعتراض أو المناقشة أو غيره، وما زال السؤال نفسه يدور ببالي حول ما يمكن أن تفعله السلطة في الإنسان.
تلك الأمثلة التي ذكرتها من الأفلام السابقة قد يراها البعض مجرد أفلام سينمائية تتصيد الأحداث الإنسانية النادرة جدًا لتصيغها في قالب درامي جذاب يُمتع المشاهدين، وقد يراها البعض غير واقعية بالمرة ومبالغ فيها، أي مجرد أفلام تُعرض على الشاشات ولا شيء آخر. ولكن إذا وضعنا حدثًا إنسانيًا بحجم رابعة العدوية في الميزان، فسنجده مماثلاً تمامًا لما عرضته تلك الأفلام أو غيرها وأكثر عنفًا وألمًا. مشاهد من القتل والدماء ورائحة الجثث المحترقة والدخان الأسود يعتلي المباني الأسمنتية، ويحجب الرؤية عن بوابات السماء.
بعد أيام قليلة تأتي ذكرى أحداث رابعة العدوية بما تحمله من وجع في النفوس، كنت محظوظًا بعض الشيء لأني لم أفقد عزيزًا مقربًا في تلك الأحداث، لكني رأيت الأصدقاء والأقارب ممن فقدوا ذويهم، ورأيت دموعهم وشهدت مأساتهم، وتوحدت معهم رغم أني لن أشعر بما يشعرون مهما حاولت.
تُحوّل السلطة وشبح السيطرة، الإنسان إلى وحش هائج يطيح بالجميع، ويوهم نفسه بأن جرائمه من أجل الوطن والشرف!
وقتها رأيت ما يمكن أن تفعله السلطة في البشر، وكيف يحول شبح السيطرة الإنسان إلى وحش هائج يطيح في الجميع، وكيف يوهم الإنسان نفسه بأن جرائمه تأتي من أجل الوطنية والشرف وحماية البلاد. رأيت الذل والهوان والعار، ورأيت الألم والحزن، ورأيت نفسي تتحول تدريجيًا إلى شخص بلا مشاعر، تمرّ عليه كل المآسي التالية مرور الكرام، فكلها مآسٍ صغيرة إذا ما قورنت بحجم المذبحة.
اقرأ/ي أيضًا: أن تحتفي بمن ظُلم
خفت على نفسي كثيرًا، وارتعبت، وتملكتني أفكار الليل وأشباحه المخيفة. ومن يومها لم يزر جسدي النوم بنفس راضية وقلب سليم وضمير مستريح، فمن يومها وأنا خائف أن يُدقّ بابي ليلًا، أو أن أختفي في ظروف غامضة، أعلن خوفي وضعفي وجزعي وقلة حيلتي، ولعلّي لست وحيدًا في ذلك، فأنا وغيري كثيرون منذ أحداث رابعة، محبوسون في ألم الماضي، ومكبلون بصرخات الضحايا، وليست لدينا القدرة على تحرير أنفسنا أو المضي قدمًا في حياتنا مع ماضٍ من الألم الشديد لن ينمحي بسهولة.
اقرأ/ي أيضًا: