في معرض إجابات العرب المسلمين الذين وجدوا أنفسهم في قلب المجتمعات والحضارة الأوربية عن سؤال الانطباعات، التي كونّوها عن الأوربيين الذين يعيشون بين ظهرانيهم، يتوقف المرء عند إعجاب البعض بالتزام الحكومات الأوروبية بمبدأ حقوق الانسان، الذي لا يوفر حق الحماية للأشخاص الذين يعانون من خطر الحروب فحسب، بل ويحفظ كرامتهم ويساعدهم على الاندماج في المجتمع الجديد.
يشبه الموقف النرجسي من المسلمين تجاه المسحيين، الموقفَ النرجسي ذاته الذي كان يتخذه المسيحيون اتجاه المسلمين الكفرة سابقًا
الجميع سواسية أمام القانون، بغض النظر عن وضعهم الاقتصادي أو الاجتماعي أو موقعهم الوظيفي. للأسف هذا ما نفتقده في دول أوطاننا الأم. كما يتوقف عند وحدة الموقف الأخلاقي الذي يحمله الفرد اتجاه القيم الإنسانية التي يؤمن بها، فالشخص الأوروبي لا يهتم بنظافة بيته فقط، بل يسحب هذا الاهتمام إلى الشارع والمصنع والمدرسة التي يتعلم فيها. إضافة إلى قائمة طويلة من الأخلاقيات والإيجابيات التي تبدأ من الأمانة تجاه ممتلكات الغير وتجاه العمل الذي يقوم بإنجازه، وتشمل الصدق والمثابرة، ولا تنتهي عند الالتزام بالعمل والرغبة بالإنجاز. ومع ذلك ترى أولئك المسلمين يشفقون على المصير الذي سينتظر أولئك الأوروبيين يوم القيامة لكونهم أشقياء كفرة، لم يحظوا بنعمة الدخول في الإسلام. يشبه هذا الموقف النرجسي من المسلمين تجاه المسحيين، الموقف النرجسي ذاته الذي كان يتخذه المسيحيون اتجاه المسلمين الكفرة، إبان الفترة التي كانوا يرسلون أبناءهم للتعلم في جامعات الأندلس المتطورة حضاريًا. ومرد هذا السلوك الاستعلائي من قبل الطرف المتأخر حضاريا اتجاه المتقدم، يعود برأي محمد أركون إلى السياج الدوغمائي المغلق، أي مجموعة التصورات التي تصوغها الجماعات الدينية عن نفسها باعتبارها الفرقة الدينية الصحيحة والوحيدة المؤهلة بالنجاة في الدار الآخرة، بينما النظر إلى الجماعات الدينية الأخرى باعتبارها فرقًا مارقة غير جديرة بالفوز، أي الدخول إلى الجنة في الدار الآخرة.
اقرأ/ي أيضًا: بشار الأسد واعظًا.. جناية السلطة ضد النص والتفسير!
في عام 1808، أعاد الموقف الاستعلائي نفسه الذي يدعي التفوق الأخلاقي على الآخرين رغم تأخره الحضاري، عندما أجبر الإنكشارية "جنود السلطان العثماني" ورجال الدين ذوو النزعة الصوفية السلطان سليم الثالث على الاستقالة من منصبه وتعريضه للقتل فيما بعد، أثر محاولته إدخال بعض الإصلاحات العسكرية على جيشه الإنكشاري والمستمدة من الجيش الفرنسي، ليوقف سلسلة الهزائم التي تعرض لها الجيش على مدار المئة سنة الماضية، متذرعين بأن الأخذ بعلوم الكفرة ومنتجاتهم هو خطيئة لا تغتفر، تحرم صاحبها من الفوز بنعيم الدار الآخرة، الذي لا يجوز مقارنته بالسعادة والفرح في هذه الدنيا الفانية.
خلال القرن العشرين، ومنذ ربعه الأول في مصر مثلًا، ظهرت لدى رجال الدين المسلمين الجدد تصورات مخالفة للتصور الذي كان سائدًا لرجال الدين في القرن التاسع عشر، لناحية جواز الأخذ بمنتجات المجتمع الأوروبي الكافر، شريطة تمسك المسلمين بنظام حكم ديني تطبق فيه أحكام الشريعة على نحو كلي. بينما في سوريا، وقع المشايخ والعلماء التقليدين، بما فيهم محمد سعيد رمضان البوطي، في وهم التصور القائل بقدرتهم على أحداث تحولات دراماتيكية في النسيج الأخلاقي، في ظل سلطة تقوم سياستها العملية على تفكيك وهدم المجتمع وأخلاقه معًا، كي لا يشكل أي خطر على إدامة سلطتها.
نجح النظام السوري في جر المشايخ إلى مستنقع الفساد الذي رسمه لجميع أبناء المجتمع
في وقائع الحياة اليومية، نجح النظام في جر المشايخ إلى مستنقع الفساد الذي رسمه لجميع أبناء المجتمع، والمتمثل بمقولة الدكتور طيب تزيني "إفساد من لم يفسد، ووضع الجميع تحت الطلب، أي الاتهام"، إلى الدرجة التي جعلت من وزارة الأوقاف التي يشرف عليها رجال دين من أسوأ الوزارات في سوريا على الإطلاق. وما ذاك إلا لأنه أراد خلق الأرضية المناسبة لجعل الجميع شركاء في الفساد الأخلاقي، الأمر الذي يسحب البساط من تحت أقدامهم إذا ما أرادوا تزعم مطالب الإصلاح السياسي أو مساندتها. كما يمنحه الفرصة لتحميلهم تبعات الفشل الاقتصادي الناتج عن سوء إدارته باعتباره ناتجًا عن فشل أخلاقي مجتمعي.
اقرأ/ي أيضًا: سيكولوجيا الجلاد.. التعذيب بوصفه فنًّا
فيما فضلت حركة الإخوان المسلمين بقيادة الإصلاح الأخلاقي من الخلف، اندفع زعماء الحركة الوهابية لقيادته من الأمام عبر تحالفهم مع ملوك آل سعود. ولقد نجحوا نتيجة هذا التحالف بالسيطرة على الحياة الأخلاقية للمجتمع السعودي بكل مفاصلها، فهم الدعاة وهم القضاة، وهم رجال السلطة التنفيذية أو رجال الشرطة الأخلاقية، كما تم ترسيمها عبر "هيئة المعروف والنهي عن المنكر". ومع ذلك فقد ظلوا عاجزين عن بناء مسلم لا يعاني من شرخ أخلاقي، شخص يدعو إلى الشيء ويمارس نقيضه، يستميت في الدفاع على ملكيته الشخصية ولا يبالي بالمال العام، يدافع عن العمل بوصفه وسيلة لحماية كرامة الإنسان، فيما يهدر ساعاته باللاجدوى. الأمر الذي يخرج عن إطار سوء نية شيوخ الحركة أو قلة حماستهم إلى إطار عطب الإطار المرجعي الذي نهضت عليه هذه الأفكار.
في كتابه "الأخلاق البروتستانية وروح الرأسمالية"، أراد ماكس فيبر أن يتعرّف على أثر التصورات الدينية لدى أصحاب المذاهب الدينية المسيحية على سلوك معتنقيها الاقتصادي. فوجد أن الكاثوليكية تولي اهتمامًا بالعبادات على حساب العمل المنتج، مما جعلها تعتقد أن خلاص الإنسان في الدار الآخرة، يعتمد على الأعمال الدينية الصالحة التي قام بها المرء في حياته الدنيا، فيما أولت البروتستانتية اهتمام أكبر بالعمل الدنيوي المنتج وشجعت عليه باعتباره طريق آخر إلى الخلاص إلى جانب العمل الديني. على غرار البروتستانتية أولت الكالفينية أهمية أكبر للعمل المنتج وجعلته بنفس منزلة العمل الديني إذ لم يكن أكثر لنيل الإنسان الخلاص أو الرضا الإلهي. إلا أن عظمة الكالفينية كمنت في اختراعها طريقًا لتحقيق الثروة يختلف عن الطرق المألوفة آنذاك، كما النشاط الزراعي أو التجاري أو الحرب المقدسة. تطلب النجاح في الحقل الإنتاجي المتمثل في النشاط الصناعي تفرغًا كاملًا لممارسته، كما تطلب إدارته على نحو عقلاني ومنضبط هذا إلى جانب تحلي الشخص الذي يمارسه بأخلاقيات الأمانة والإخلاص والصدق والتسامح. وهكذا نجحت فئة الصناعيين وكل من يدور في فلك عملياتهم الإنتاجية في ترسيخ قيم أخلاقية جديدة، لا تدور حول المعتقد الديني بل حول العمل المنتج الذي ارتقى إلى مصاف العمل المقدس. كما نجحت في تعميم الأخلاق البرجوازية الخاصة بطرق العمل المنتج على جميع أفراد المجتمع بغض النظر عن النشاط الاقتصادي الذي يمارسونه. وما كان لكل ذلك أن ينجح دون توفير البيئة القانونية والسياسية المناسبتين، فدعوا إلى النظام البرلماني القائم على حرية الفرد بالاختيار، الذي أصبح له ولأول مرة في التاريخ البشري دور فاعل، وأصبح الحاكم فيه يقوم بدور الخادم لشؤون المواطنين لا دور المتسلط أو الولي، وهكذا تراجع في ظل هذا النظام القائم على فكرة المشروع الرأسمالي، الدور الذي كان يقوم فيه رجال الدين في السياسية لينحصر في رعاية الشؤون الدينية لرعايتهم، مما مهّد فعليًا لفصل الدين عن السياسة، وفصل الدين عن الدولة، وفصل الأخلاق البرجوازية القائمة على العمل المنتج عن الأخلاق المسيحية القائمة على الدين والخضوع لسلطة الله المُطلقة.
ارتكب رجال الدين المسلمين، الذي نظروا ودافعوا عن النهضة الحضارية للمسلمين، ثلاثة أخطاء جوهرية في فهم عملية التطور أو النهضة الاقتصادية التي نقلت أوروبا من النمط الإقطاعي القائم على الاقتصاد الريعي إلى النمط الرأسمالي القائم على الصناعة، مرة عندما ظنوا أن الأخلاق البرجوازية التي ساهمت في نهضت أوروبا، بدءًا من عام 1750، هي أخلاق مسيحية بالمعنى الديني للكلمة، ومرة أخرى عندما اعتقدوا أن بإمكانهم القيام بالنهوض الاقتصادي دون الحاجة لآليات العمل الديمقراطي للدولة الحديثة، ومرة ثالثة عندما ظنوا أن الأخلاق الإسلامية القائمة على المفهوم "الفروسي للثروة"، كما يتجلى في سلوك الغزو المقدس، يمكن أن تلعب نفس الدور الذي لعبته الأخلاق البرجوازية النابتة من مجتمع الثورة الصناعية.
إن عدم المبالاة الأخلاقية التي يبديها المسلم اتجاه الممتلكات العامة، ربما يعود إلى تعريفه لها كممتلكات تعود لدار الحرب
في حين يكرس النموذج الفروسي الإقطاعي أخلاق القوة وما ينتج عنها من أخلاق الطاعة والخضوع، يكرس النموذج البرجوازي الحداثي/الصناعي أخلاق الحقوق المتساوية للجميع، فالحاكم ليس زعيمًا وإنما موظفًا يخضع لحرية ضميره أولًا، ولمراقبة السلطة التشريعية التي فوضته للقيام بمهامه ثانيًا. وبينما يكرس النموذج البرجوازي وحدة الموقف الأخلاقي، يعمق النموذج الفروسي الشرخ الأخلاقي، لأنه يجبر المسلم على العيش في عالمين متضادين، عالم دار الحرب وعالم دار السلام. فالموقف الأخلاقي من النظافة مثلًا ليس واحدًا، ففي حين يكون إيجابيًا حين يتعلق الأمر بنظافة البيت، سرعان ما يصبح سلبيًا حين يصبح الأمر متعلقًا بنظافة الشارع. وهو أمر لا يمكن فهمه إلا بالاستناد إلى التحديد الذي يعطيه المسلم للمكان، فيما إذا كان مكان حرب أم سلام.
اقرأ/ي أيضًا: في الأندلس.. التاريخ في خدمة الفهم الأحاديّ للهوية
إن عدم المبالاة الأخلاقية التي يبديها المسلم اتجاه الممتلكات العامة، يعود إلى تعريفه لها كممتلكات تعود لدار الحرب، وهو إذ يفعل ذلك فلأنه يدرك أن هذه الممتلكات ماهي إلا واجهة لتكريس سلطة الحاكم، الذي يخاف منه ولا يحبه. وأن هذه المرافق العامة تصب في النهاية بخدمة تأبيد سلطة ذاك الحاكم. إنّ تعطيل هذه المرافق العامة التي تبدو في ظاهرها تعود إليه فيما هي تعود للحاكم المتجبر، هي محاولة قصدية لإهانة ذلك الحاكم أو النيل من هيبته. إن كل محاولة أخلاقية للخروج من هذا الموقف الأخلاقي للفرد المسلم لا تأخذ بعين الاعتبار كسر أو تحطيم هذا النظام الفروسي والانتقال إلى النظام الديمقراطي لن يكتب لها النجاح، حتى وإن كان القائمون عليها من جنس الملائكة.
اقرأ/ي أيضًا: