للوضع الاقتصادي، صعودًا وهبوطًا، دور حاسم في تحديد أنماط العيش والتفكير والسلوك، ويصبح هذا الدور أكثرَ حسمًا في المجتمعات التي يعتمد اقتصادها على النفط، في ظلّ حكومات تعمل بمنطق "أحيني اليوم واقتلني غدًا"، إذ تستهلك كلّ العائدات متى توفرت، من غير أن تخصّص منها ما يغذي مشاريع استثمارية تدرّ الثروة.
من الظواهر التي أفرزتها مرحلة التقشف في الجزائر، خروج الأطفال إلى أرصفة الشوارع لبيع الخبز المصنوع على الأفران في البيوت
هذا الوضع ينطبق تمامًا على الاقتصاد الجزائري، الذي لا يصدّر إلا 300 مليون دولار خارج المحروقات، رغم أن مساحة البلاد تبلغ 2.5 مليون كيلومتر مربع، وساحلها يبلغ 1500 كيلومتر، وفصولها أربعة في الفصل الواحد، وهو ما دفع الحكومة إلى مواجهة الشعب بسياسة التقشف، مباشرة بعد نزول سعر البرميل إلى ما دون الخمسين دولارًا أمريكيًا.
اقرأ/ي أيضًا: فواتير الكهرباء والغاز تصعق جيوب الجزائريين
لم تستوعب الأسرة الجزائرية الأمر في الأسابيع الأولى، ذلك أنها تعوّدت على ثقافة التبذير على مدار عشرية كاملة، لكنها راحت تتكيّف معه فيما بعد، وفق أكثر من طريقة وإجراء، حتى تضمن استمرار اللقمة، ولا تقع حبيسة الحاجة إليها.
من الظواهر التي أفرزتها مرحلة التقشف وتكيّف الشارع الجزائري معها، خروج الأطفال الذين في سنّ التمدرس إلى أرصفة الشوارع وجنبات الطرق السيّارة، لبيع الخبز المصنوع على الأفران في البيوت، يسمّى شعبيًا "المطلوع" أو "خبز الخميرة"، مستغلّين تعلّق الجزائري به، أكثر من "الخبز الفرنسي"، الذي يباع في المخابز، ويستهلك منه الجزائريون البالغ عددهم 40 مليونًا، ما يقارب من 49 مليون خبزة يوميًا.
يختلف لون وحجم وطعم "المطلوع" من منطقة إلى أخرى، ويقلّ إعداده ذاتيًا في المدن الكبرى، لذلك فهو يباع في المطاعم والمحالّ التجارية، وعلى الأرصفة، بسعر يتجاوز مرتين سعر الخبز العادي، وقد يتجاوز ذلك بكثير، خلال شهر رمضان، حيث يصبح وجوده على مائدة الإفطار عادة مقدّسة.
ما إن يعود سعيد مساء من المدرسة، 11 عامًا، في مدينة بودواو، 38 كيلومتر شرق الجزائر العاصمة، حتى يجد أمّه قد أعدّت كيسًا يحوي من 20 إلى 30 خبزة/"مطلوعة"، ليطلع بها إلى ساحة الحي، وقلما يجد نفسه مضطرًا لأن يجلب الانتباه إلى سلعته بالنداء عليها والإشادة بها، مثلما يفعل باعة سلع أخرى، لأن الإقبال عليه يحدث عفويًا.
يضع سعيد خبزه داخل قماشة نظيفة فوق كرسي بلاستيكي، حتى لا يتعرّض للغبار والذباب، تاركًا خبزة ظاهرة للعيان حتى تحدّد طبيعة السلعة، وإلى جانبها صحن صغير يضع فيه النقود. "اتفقت الأسرة على تقاسم الأعباء، فأبي يجلب كيس السميد من الدكّان، وأمّي تعجن الخبز وتنضجه على الكانون، فيما أتولّى أنا بيعه في الخارج"، هذا ما صرح به سعيد لـ"ألترا صوت".
الأطفال باعة المطلوع على أرصفة الشوارع، أكثر حظًا من الذين يبيعونه على جنبات الطرق السيارة، باعتبار قربهم إلى البيت وقلة المخاطر
يقول محدثنا إنه مرّت تسعة أشهر على تولّيه هذه المهمّة، والسبب هو "ضرورة كسب مدخول إضافي، حتى تستطيع الأسرة قضاء حاجاتها المختلفة، في ظلّ ارتفاع الأسعار". ويكشف: "نشتري كيس السميد بـ1000 دينار، ونربح منه 500 دينار".
اقرأ/ي أيضًا: أول رمضان في زمن التقشف الجزائري
التحق ثلاثة أطفال آخرين بالمكان ذاته، من بينهم بنت، ورصدنا منافسة بينهم على المكان الأكثر استراتيجية، فيما انتشر آخرون في أماكن أخرى. تقول وداد: "تعوّدت على الخروج في الوقت الذي ينفذ فيه الخبز العادي من المخابز والدكاكين، حيث يجد الناس أنفسهم مضطرين إلى شراء المطلوع، هكذا لا أقضي وقتًا طويلًا على الرصيف". وتعترف: "هذه التجارة ضمنت لي ولإخوتي الثلاثة ثمن اللباس والأدوات خلال الدخول المدرسي، وجعلت مائدتنا في رمضان متنوعة".
الأطفال باعة "المطلوع" على أرصفة الشوارع، أكثر حظًّا من الأطفال الذين يبيعونه على جنبات الطرق السيّارة، من زاوية قربهم إلى بيوتهم، وقلة المخاطر، ذلك أن بعضهم تعرّضوا لحوادث أودت بحياتهم أو خلّفت لهم إعاقاتٍ دائمة.
في الشطر الغربي من الطريق السيّارة، الذي يربط شرق البلاد بغربها، 1700 كيلومتر، يحتلّ أطفال ومراهقون مفاصلَ منه، لبيع "المطلوع"، مرفوقًا بسلع أخرى مثل اللبن والبيض المسلوق والماء المعدني وفواكه الموسم، مواجهين الموت بكرة وأصيلًا. يقول الطفل عثمان، في منطقة وادي رهيو غربًا، إنه يأتي في الفترات التي لا يدرس فيها، على أن يخلفه أبوه في غيرها. ويضيف: "الآخرون يدرسون كي يعملوا في المستقبل، وأنا أعمل كي أستطيع مواصلة الدّراسة".
اقرأ/ي أيضًا: