الدولة ضد الأمة، الدولة ضد المجتمع، الدولة ضد الديمقراطية.. كل هذه عناوين تصلح أن تكون على غلاف كتاب المفكر السوري برهان غليون "المحنة العربية: الدولة ضد الأمة" الذي صدرت طبعته الرابعة عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، أواخر 2015"، وكانت الطبعة الأولى من الكتاب قد صدرت عام 1993، ما يؤشر على الوعي الكامن وراء إعادة إصدار الكتاب، والتأكيد على عمق وأهمية الأفكار الواردة به وصلاحيتها بعد ما يقارب الربع قرن في التأشير على مواطن الخلل في المسألة العربية، وإشكالات تحقيق الديمقراطية في بلاد ما تزال تبحث عن سبيل النهضة.
يطرح كتاب "الدولة ضد الأمة" فكرة الدولة الحديثة، كمسبب في توغل وظهور الاستبداد وتكريسه
يناقش الكتاب إشكالية الدولة في ظل الواقع العربي المعاصر والمشكلات الثقافية والسياسية والاقتصادية التى تواجهها وتحليل حالة التخبط التى تعانيها هذه المجتمعات. وعلى النقيض من كل الأطروحات الأنثروبولوجية والتاريخية التي تركز على العوامل الثقافية والموروث الديني والتأثيرات الكولونيالية في تأصيلها لبنية الاستبداد العربي وسلطويته الراهنة، يطرح الكتاب فكرة الدولة الحديثة، أو "الدولة التحديثية"، كمسبب رئيسي في توغل وظهور الاستبداد وتكريسه وخلق طبقة من "المستبدين الجدد".
اقرأ/ي أيضًا: "الطبقات والتراصف الطبقي" بحسب روزماري كرومبتون
و"الدولة التحديثية" بحسب غليون "ليست دولة وطنية (دولة - أمة)، ولا دولة ديمقراطية، أو دولة تحصين الحرية، إنها نموذج جديد للدولة الانتقالية، نشأت على إثر ظهور الدولة الحديثة في بعض المجتمعات الأوروبية، وما أحدثته هذه الدولة من تفاوت في إمكانيات وديناميات التطور بين المجتمعات. إن الدولة التحديثية هي الأداة التي استحدثتها وطوّرتها المجتمعات المتأخرة كبديل عن الحداثة، وكأداة للوصول إليها في الوقت نفسه، أي كوسيلة للثورة على المجتمع المتأخر وتطوير بناه، ففي وظيفة هذه الدولة وتصورها ومفهومها الأصلي عن نفسها ودورها التاريخي تكمن كل عناصر السلطة المطلقة الحديثة".
يحلل الكتاب في فصله الأول الدولة العربية الحديثة في مفهومها وأدواتها، وكيف تحوّلت بهذا المفهوم من دولة لإقامة مجتمعات قائمة على قيم الحرية والديمقراطية والعدل، إلى وحش كاسر يلتهم كل مفاهيم الحداثة والمعاصرة التي تقوم عليها المجتمعات، مما أدى إلى تشتيت وتدمير هذه المجتمعات وسحق هويتها الثقافية والسياسية.
وحين يتعرّض صاحب "المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات" إلى البحث في نشأة الدولة وإشكاليتها في العالم العربي، يقول: "لكن البحث في نشأة الدولة لا يعني بالنسبة إلينا تبرير وجودها بعد قيامها، وإنما على العكس الكشف عن العوامل المادية والمعنوية التى تجعل هذا القيام أو الظهور ممكنًا في هذه المنطقة أو تلك، وفي هذه الحقبة أو تلك، ويمنع وجودها في مناطق وحقبات أخرى، فإشكالية تكوين الدولة لا تسعى إلى فهم الأسباب التى تفسّر ظهور الدولة بشكل عام في التاريخ، أو فهم لماذا لا يمكن للمجتمعات أن تعيش من دون دولة، لكن فهم ما الذي يفسّر في هذه اللحظة أو تلك، وفي هذا المجتمع أو ذاك، ولادة هذا النموذج للدولة أو ذاك: دولة العرب، دولة الهنود، الدولة الموحدة المركزية، الدولة المفككة الطائفية، الدولة الوطنية أو الإمبريالية وليس نموذج آخر للدولة".
فشل مشروع التنمية العربي كان نتيجة حتمية لعدم تحقيق التضامن وفشل تجارب الاتحاد
ويتطرق الكتاب في فصله الثاني إلى تكوين الأمة العربية عبر الأزمنة المختلفة، مع التوقف طويلًا مع التحولات التي شهدها القرن الثامن عشر ودورها المؤثر في ما تلى من "انبعاثات أممية"، مستشهدًا بالصراع بين الوهابية والدولة العثمانية، وكيف ساهم هذا الصراع بترسيخ أفكار مثل أن عودة الخلافة إلى العرب هي السبيل لعودة مجد هذه الأمة. ويناقش الكتاب في الفصل الثالث الغزو الفرنسي لمصر باعتباره لحظه فارقة في تاريخ الأمة العربية لما له من نتائج على تطور نظرية الدولة والسلطة، نتيجة الاصطدام والانفتاح على مجتمع فكري جديد لم تعرفه الأمة من قبل.
اقرأ/ي أيضًا: طبعة جديدة من "السياسة" لأرسطو
ويلتفت الكتاب أيضًا في فصله الرابع إلى قيام الثورات القومية التي أطاحت بالأنظمة التي تلت الاستعمار، ويٌرجع أسباب فشلها إلى عدم قدرتها على حل المشكلات السياسية والثقافية والاقتصادية التي تواجه المجتمعات مع ارتفاع سقف آمال هذه الشعوب وتطلعاتها إلى مستقبل آمن ودولة ديمقراطية قائمة على الحريات الثقافيه والسياسية، ويؤكد غليون أن أبرز إخفاقات هذه الثورات القومية هو "غياب الديمقراطية والفكرية وسيادة روح التجريب الذي حكم سلوك القيادة وتفكيرها الذي كان يعني غياب العقيدة أو النظرية الثورية الواضحة والمتسقة"، نتيجه لتحوّلها إلى أداة قمع في يد طبقة المستبدين الجدد التي أنتجتها الدولة الحديثة، وهو ما كان ما أسماه بدايةً "عهد القطيعة بين الدولة والمجتمع"، ليصل إلى استنتاج أن فشل مشروع التنمية العربي كان نتيجة حتمية لعدم تحقيق التضامن وفشل تجارب الاتحاد أو الوحدة.
وفي أحد الأجزاء المهمة من الكتاب، يطرح غليون، في الفصل الخامس، نقاشًا حول أسباب فشل مشروع الحداثة العربي، مشيرًا إلى انقسام الباحثين في تحليل أسباب الأزمة بين وجهتي نظر فريقين من المفكرين، الفريق الأول يتحدث عن الجانب الأنثروبولوجي من حيث الموروثات الدينية والثقافية للمجتمعات، والفريق الثاني يذهب إلى أن الأزمة سياسية من الأساس، وأن التخلي عن الهوية الثقافية لهذه المجتمعات واتباع نخب فاسدة هو السبب الرئيسي في فشل مشروع الحداثة العربي.
وفي الفصل الأخير من الكتاب، يطرح غليون سؤالًا كبيرًا يعنون الفصل "إلى أين يسير الوطن العربي؟"، ومن خلال محاولته الإجابة على هذا السؤال المحوري في مطلع التسعينيات، يخلص الكاتب إلى أن العالم العربي أمام خياران، الأول هو الصراع الأهلي بين الأصولية والعلمانية، والثاني هو اتباع طريق التغيير الديمقراطي وبناء مجتمعات قائمة على الديمقراطيه والعدل والحرية، ويرى غليون أن الطريق الثاني أقل كلفة ولكنه سيواجه مشقات وصعوبات كثيرة من أجل الوصول إليه.
وفي النهاية، تجدر الإشارة إلى أهمية الكتاب ووجاهة طروحاته واستشرافها للمستقبل، وهو ما أكدته انتفاضات الربيع العربي في 2011، وما صاحبها من أحداث ومواقف، فالكتاب ينسف أركان المقولة الشائعة عن "الاستثناء العربي" وموات الحركة الشعبية الاحتجاجية، وردّ أسباب العجز الديمقراطي في العالم العربي إلى عوامل ثقافية ودينية حصرًا، بتقديمه بيانًا نقديًا يفنّد أسباب المحنة العربية ويحمّل الدولة نفسها أسباب فشل التحول الديمقراطي بحيازتها وتطويرها منظومات قمعية وبوليسية تحدّ من تثمير أي محاولة للتغيير، وهو ما أثبتته انتفاضات الربيع العربي من أن تطلُّع الشعوب العربية إلى التحرّر والانعتاق لا يقلّ عن تطلُّع غيرها من الشعوب.
ينسف برهان غليون المقولة الشائعة عن الاستثناء العربي" وموات الحركة الشعبية الاحتجاجية
اقرأ/ي أيضًا: هايدغر في الفكر العربي
وإن كان يؤخذ على الكتاب في هذا الصدد عدم رصده لتأثيرات الوعي الديمقراطي المتنامي في البلدان العربية، لا سيما في الدول الأكثر قمعية، والتي طالتها رياح التغيير في الموجة الأولى من الربيع العربي، وهو الأمر ذاته الذي أشار إليه غليون مستدركًا في مقدمته للطبعة الرابعة من الكتاب بقوله: "عندما قررت الشعوب إزالة ما يعترض طريق تحررها من عقبات، ومنها الدولة العلقة، والآلة البوليسية الأمنية لتخرج من سجن الديكتاتورية ومستنقع الحداثة المعاقة، اجتمعت ضدها كل عناصر الثورة المضادة، المحلية الممثلة بالطبقة الطفيلية، طبقة الدولة أو الطبقة الدولة، إلى القوى الإقليمية والدولية الراعية والضامنة لها كوسيلة لإخضاع وترويض وترويع الشعوب العربية".
مضيفًا في نهاية مقدمته أن قراره بترك النص الأصلي للكتاب كما هو، دون تغيير، جاء "كجزء من الشهادة على تلك الحقبة الأليمة، التي ما كان يمكن لها أن تقود إلى غير ما وصلت المجتمعات العربية إليه اليوم: خراب العالم العربي دولًا ونخبًا وعقائد ومؤسسات".
اقرأ/ي أيضًا: