لا يقتصر دور الصحافة الثقافيّة على مواكبة الأخبار الأدبيّة والفنيّة ومواكبة الحراك الثقافيّ العربيّ، أو كتابة المقالات النقديّة ومراجعات الكتب، إنّما تُساهم أيضًا في بلورة الوعي الثقافيّ والسياسيّ لدى القرّاء، وذلك من خلال خطاب يعمل على تثقيف وتنوير العقل العربيّ، وعلى الرغم من قلّتها أساسًا، إلا أنّ الصحافة الثقافيّة العربيّة تعيش اليوم واحدةً من أخطر أزماتها التي تفرض عليها التوقّف نتيجة قلّة التمويل، كغيرها من المؤسّسات الفكرية والثقافيّة، إذ تُعتبر الصحافة الثقافيّة خارج سلّم أولويات الداعمين، الأمر الذي يقود إلى أزمة ثقافيّة حقيقيّة عربيًّا.
لم يعد المثقف بحاجة إلى الصفحة الثقافيّة كما في السابق، فقد بات يملك منبره الخاص الذي يتواصل فيه مع المتلقّين مباشرة
يرى الكاتب والصحافيّ الثقافيّ السعوديّ علي سعيد، في حديثه مع "ألترا صوت"، أنّ الصحافة الثقافيّة لا تعيش زمنها الأفضل، إذ أنّ هنالك عوامل كثيرة أفقدت المنابر الثقافيّة في الصحف ذلك الوهج الذي عرفناه في العقود الأخيرة الماضية، وأسباب عديدة هزّت الصحافة الثقافيّة، ولعلّ أبرزها انهيار سلطتها كمنبر متفرّد بصياغة وتقديم الخطاب الثقافيّ للجمهور. فمنذ دخول زمن الإنترنت، وصولًا إلى مواقع التواصل الاجتماعيّ، والصحافة الثقافيّة، وخاصةً التقليديّة والورقيّة، في تضرّر وصل حدّ القطيعة التي وجدت بين جيل الصحافة الثقافيّة والجيل الجديد. فالصحافة الثقافيّة لا تزال تُحاصر نفسها بوهم الأبوّة والريادة والمكانة في الحياة الثقافيّة دون إدراك عميق للتحوّلات التكنولوجيّة والإعلاميّة والثقافيّة المستمرّة.
اقرأ/ي أيضًا: الأردن.. الثقافة في خبر كان
ويؤكّد علي سعيد أيضًا أنّ المثقف لم يعد بحاجة إلى الصفحة الثقافيّة كما في السابق، فهو يملك اليوم منبره الخاص الذي يتواصل فيه مع المتلقّين مباشرة، دون الحاجة إلى الصفحة الثقافيّة كوسيط إعلاميّ يُمارس عليه أيّ شكل من أشكال الفرض والتسلط لقول هذا أو ترك ذاك. فضلًا عن أنّ الصحافة الثقافيّة خلت من تلك الصراعات والجدالات الثقافيّة التي كانت إحدى الصور الدراميّة التي أعطتها ذلك الحضور المتّقد في الذاكرة، وما أعلناه في سنة 2009 من أنّ الفيسبوك تحوّل إلى مقهى للمثقفين، بات حقيقيًّا وهو ينطبق على بقيّة مواقع التواصل الاجتماعيّ أيضًا، فالمعارك والجدالات الفكريّة والثقافيّة والأدبيّة لم تعد تُدار في الصحف كما كان في السابق، بل انتقلت إلى شبكات التواصل الاجتماعيّة، والأسوأ أنّ الصحافة الثقافيّة تحوّلت هنا، من موقع الفعل المنتج، إلى ردة الفعل المستهلك والمتابع للأحداث، بدلًا من أن تقوم هذه الصحافة بدور جديد في قيادة المشهد الثقافيّ. وفي المقابل، الصحافة الثقافيّة التقليديّة لم تتمكّن من صياغة خطاب إعلاميّ يتواصل مع الجيل الجديد، وظلّت تتوهم أنّها لا تزال تمتلك تلك السلطة العليّا في المشهد دون إدراك للتحوّلات التي حدثت، ومن أهمّها أنّ القارئ تمكّن - ولأول مرّة في تاريخ الثقافة - أن ينتزع لنفسه سلطة حضور تُقارع سلطة الكاتب والمؤسّسة الصحافيّة الثقافيّة بكامل عتادها من محرّرين وكتّاب ونقّاد، بدليل أنّ قارئًا نهمًا لديه حساب في موقع "غودريدز"، ستكون لهُ سلطة وقوّة في توجيه الرأي العام الثقافيّ أكثر من ناقد أكاديميّ لديه عشرات البحوث والدراسات والمقالات النقديّة المُتخصّصة.
ويرى علي سعيد أنّ هنالك أيضًا تدهورًا في الأقسام الثقافيّة داخل المؤسّسات الصحافيّة التقليديّة، فالصحافة الورقيّة تأثّرت كثيرًا من ضربات مواقع التواصل الاجتماعيّ وهي تسرق الإعلان التجاري الذي يموّل الصحف. وكما هو معروف، الصحافة الثقافيّة أولى الأضاحي التي يتخلّى عنها قادة الصحف في هذه الأزمات، باستثناء مؤسّسات صحافيّة مرموقة وقويّة (في الخليج العربي ومصر) لا تزال تعمل وتنتج صحافة ثقافيّة بتوازن بين رصانة الخطاب والتحوّلات الاقتصاديّة التي عصفت بالصحافة الورقيّة، بين العديد من المؤسّسات الصحافيّة التي انهارت في السعوديّة والخليج العربي. الصورة ليست قائمة بالمطلق، فهذه المؤسّسات تمتلك إلى جانب الخبرة، المصداقيّة والسمعة العريقة في المجال، ما يعني أنّها لا تزال محل طلب واتصال من المهتمين بالشأن الثقافي، غير أنّ بيروقراطية النشر وضيق هوامش التعبير، وعدم صياغة أسلوب جديد في تحرير المواد الثقافيّة، يتّجه للقارئ الحديث، سيكون دون شك، أهم المخاطر التي تهدد مستقبل الصحافة الثقافيّة.
ينهي علي سعيد حديثه قائلًا: "هنالك دومًا فرص لتجديد خطاب المؤسّسة الصحافيّة الثقافيّة الكلاسيكيّة، كما أنّ هنالك أفكارًا وخطط لتنويع مصادر تمويلها لتصمد وتستمر، غير أنّ مثل هذه القرارات تحتاج إلى روح المغامرة والايمان العميق بأهميّة الصحافة الثقافيّة للمجتمع ككل وليس فقط للجمهور، من قرّاء وفنانين ومثقّفين.
وفي الحديث عن الصحافة الثقافيّة في الجزائر، يقول الكاتب والروائي الجزائري عبد اللطيف أولاد عبد الله أنّ الملحق الثقافيّ في الجريدة الجزائريّة يأتي غالبًا بعد الملحق الرياضي من حيث الترتيب، وتُختزل هذه الوريقات الخجولة في مقالات موجزة لا تفي بالغرض المعرفي ولا تُعطي للقارئ فسحة للتعرّف من خلالها على مختلف الأفكار الثقافيّة والفلسفيّة المعاصرة. كما أنّ هناك مثقّفين وكتّابًا من طينة نادرة قد لا نجد لهم أثرًا في هذه الملحقات، ولو بذكر الاسم فقط. في حين أنّ معظم المواضيع التي تتناولها تكتسي بطابع الدوغماتيّة. فقد تكون في مقهى ويحدّثك أحدهم أنّه قرأ في إحدى الجرائد أنّ هنالك كاتبًا ما ملحدًا وباع وطنه من أجل إرضاء جهات ما، وبالتالي هذا الانحطاط يجعل من الملحق أو الصفحة الثقافيّة نقمة بدلًا من أن يكون لها دور تنويري تلعبه وسط القرّاء والمثقّفين.
يضيف عبد اللطيف أولاد عبد الله أنّ بعض المواقع الإلكترونية والجرائد أسقطت الملحق الثقافي من حساباتها لصالح الفتاوى الدينية الجاهزة وبعض المقالات المكتوبة بأسلوب فج وفيها كثير من المغالطات الفكريّة. فتحس أن يد البروليتاريا هي من تتحكم في الجرائد والمواقع الإلكترونية لأن الفئة المثقفة لم تجد من يصغي لها في ظل هذه الفوضى العارمة التي تفرضها الرقابة على كل الأصعدة. شعار هذه المواقع البائسة والجرائد هو '' اكتب ما يريده القارئ وليس ما يحتاج إليه فعلًا كالفلسفة والفلك والأدب.. إلخ''، وهكذا فالمجتمعات العربية والمسلمة تسبح في فلك التخلف، وظاهرة اختفاء الملحقات الثقافية ما هي إلا أعراض لداء استفحل في هذه المجتمعات البائسة. إنه داء الجهل.
لم تعد الصفحات الثقافية فاعلةً، ولم تطوّر لنفسها آليات تنافس بها المنابر الإلكترونية الجديدة
اقرأ/ي أيضًا: الصحافة الجزائرية تودع أحد رجال الجيل الذهبي
من وجهته، يرى الروائي والصحافي المصري أحمد مجدي همام أنّ الصفحات الثقافيّة التي تفردها الجرائد كانت مهمةً جدًا في سنوات مضت، خاصّةً في عصر ما قبل الإنترنت، وأيضًا ما قبل الصحافة الثقافيّة المتخصصة. كانت تلك الصفحات المنبر الوحيد الذي يطلّ منه القارئ على المشهد الثقافي، والمنبر الوحيد الذي يقدّم كتّابًا جددًا. الآن اختلف الوضع، ولا سيما وقد صارت صفحة الثقافة الصفحة الأقرب للحذف، وسهل الاستغناء عنها، بالذات أمام الإعلانات وأمام الأحداث المفاجئة التي تفرض نفسها وتطلب المزيد من الصفحات للتغطية.
ويرى أحمد همام أنّه ليس لذلك تأثير كبير على المشهد الثقافي في أيامنا هذه، خاصّة في ظلّ وجود الإنترنت والمواقع الإلكترونيّة كمتنفس، وأيضًا في ظلّ افتتاح صحف جديدة من حين لآخر، فتلك الصحف تحرص بدايةً على تخصيص صفحة للثقافة واستقطاب محررين ثقافيين، والنص الجيد الآن، فلنقل رواية أو قصّة أو قصيدة، لم يعد بحاجة ملحّة لصفحة ثقافيّة تسلط عليه الضوء، فصار هناك عدّة قناة تستطيع القيام بذلك الدور، أبرزها فضاء الإنترنت بمواقعه الثقافيّة وصحفه الإلكترونيّة، بخلاف سطوة الشارع التي صارت تفوق سطوة الصفحة الثقافيّة. وهذا بسبب تضاؤل عدد النقّاد الجادّين، وبسبب أنّ الشارع هو الجمهور الحقيقي المستهدف بأي عمل فنّي، وليست الصفحات الثقافيّة بكلّ روادها، سواء كانوا كتّابًا أم قرّاء، لأن هؤلاء بالوقت تحوّلوا إلى نخب ثقافيّة لا يشكّلون وزنًا حقيقيًّا إلا في بعض الجوائز التي تعتد بما كُتِب عن العمل المرشح للمنافسة. باختصار، أرى أنّ المشهد الثقافي في المنطقة العربيّة آخذ في الانتعاش، على الرغم من تقلّص الصفحات الثقافيّة في الجرائد والمطبوعات، وهذا يعكس حقيقة أنّ تلك الصفحات لم تعد فاعلةً كما كانت في الماضي، وأنّها - ربّما - لم تطوّر لنفسها آليات تنافس بها المنابر الجديدة كالإنترنت ووسائل الاعلام الأخرى كالمرئيّة والمسموعة.
اقرأ/ي أيضًا: