تعود فكرة تطبيق الخدمة الإلزامية في سوريا إلى عام 1920، عندما أعلن وزير الدفاع السوري يوسف العظمة التجنيد الإلزامي، لمواجهة الفرنسيين في "معركة ميسلون"، التي انتهت باستشهاد الوزير العظمة، ودخول الفرنسيين إلى دمشق.
تعود فكرة تطبيق الخدمة الإلزامية في سوريا إلى عام 1920، عندما أعلن وزير الدفاع السوري يوسف العظمة التجنيد الإلزامي
تأثرت المؤسسة العسكرية في سوريا خلال فترة الاحتلال الفرنسي ما بين 1920–1946، كغيرها من باقي المؤسسات التابعة للسلطات السورية، حتى أنه بعد خروج الفرنسيين لم تستطع جمع قواها وتنظيم صفوفها نظرًا لمجموعة الانقلابات التي مرت بها، والتي دشنها حسني الزعيم في انقلاب آذار/مارس 1949، لتتوالى بعد ذلك فترة الانقلابات العسكرية، ويكون آخرها انقلاب حافظ الأسد في السادس عشر من تشرين الثاني/نوفمبر 1970. تعرضت على أثرها المؤسسة العسكرية للعديد من التغييرات التي طرأت، خلال فترة الانقلابات، نتيجة المصالح المشتركة للضباط المشاركين في الانقلابات، جرى على إثرها تسريح الضباط غير المؤيدين لأحد الانقلابات، وضم عناصر تعرف بولائها بدلًا من المُسرحين.
وتعد فترة استلام حافظ الأسد للجيش، من أكثر الفترات استقرارًا، بسبب بسط سلطته على جميع مفاصل المؤسسة العسكرية بيد من حديد، بعد تسليم الضباط المقربين منه مناصب عليا، وعلى رأسهم وزير الدفاع الأسبق مصطفى طلاس. إلا أن القبضة التي بسطها حافظ الأسد بدأت بالتفكك، بعد وراثة بشار الأسد للسلطة، وتنفيذه لما عرف عام 2000 بـ"مسيرة التطوير والتحديث"، والتي كان على رأسها الفساد المعلن في المؤسسة العسكرية، فأصبح بإمكان الشباب التخلف عن الجيش، وتسوية أوضاعهم في شعب التجنيد، أو السفر إلى خارج سوريا، بالإضافة إلى طرقٍ مختلفة أخرى.
لكن القرار الذي أصدره الأسد الابن، لم يكن ليناسب الشباب المنتمين لكافة شرائح المجتمع، على الرغم من سعي السواد الأعظم للهجرة، حتى يتجنبوا قضاء عام وتسعة أشهر في المؤسسة العسكرية، فوجدوا أنفسهم فجأة أمام خيار الالتحاق بالجيش، وإنهاء الخدمة والعودة إلى حياتهم الطبيعية، طبعًا في تلك الفترة تنوعت أساليب تأجيل الخدمة الإلزامية لمدة عام، وكان أكبر المستفيدين منها، العناصر التي تخدم في شعب التجنيد. على عكس المشهد الخارجي للمؤسسة العسكرية، الممثلة بشعب التجنيد، يتسع المشهد ويصبح أكثر كبرًا، كلما توسعنا أكثر في فهم المشهد العسكري في سوريا، وحاولنا الوصول إلى حجم الفارق الطبقي الذي كان ملموسًا لمن استطاع الاحتكاك مع موظفي المؤسسة العسكرية.
فعندما استلم حافظ الأسد السلطة شجّع أبناء الريف على التطوع في الجيش السوري، لقاء عدة امتيازات تمنح للمتطوعين، وعلى رأسهم أبناء الساحل السوري، الذين كانوا يشعرون بأنهم مغيبون عن صنع القرار داخل مؤسسة الجيش، فمنح الأسد الأب نفسه لقب القائد العام للجيش والقوات المسلحة، ومنح الجندي المتطوع السكن بأجورٍ رمزية، الطبابة المجانية، التعليم المجاني، راتب تقاعدي... ما جعل أبناء الريف يبدؤون بتسجيل طلبات التطوع.
عندما استلم حافظ الأسد السلطة شجّع أبناء الريف على التطوع في الجيش السوري، لقاء عدة امتيازات تمنح للمتطوعين
وتولى الأسد مهمة تحويل المؤسسة العسكرية إلى نظام صارم، وحدد الخدمة العسكرية بعامين ونصف، وسمح بتداول الرشوة في إطار ضيق، وهنا يمكننا التماس أولى الفوارق الطبقية بين الضباط أنفسهم، ففي الوقت الذي كان فيه الفساد مشرعًا في بعض القطع والوحدات العسكرية، فرض على القطع الأخرى نظام مراقبة حاد، ثم إن الضباط الذين كانوا يرتشون في قطعهم، وجدوا حجم الفارق الذي يحصلون عليه، بالنظر إلى الضباط الذين كانوا يخدمون في شعب التجنيد، أو المخابرات الجوية، أو أحد الأفرع الأمنية.
فعلى سبيل المثال، وَضَعَ الضباط العاملون في المكاتب الإدارية، والتي كانت "شعبة التجنيد" من أهمها، بحكم أنها المسؤولة عن سوق الشباب إلى الخدمة، واستلام وتسليم قرارات التأجيل، سعرًا خاصًا لكل معاملة تأجيل، حتى لو كانت جميع الأوراق نظامية، في حين كان ضباط الوحدات والقطع العسكرية، ينالون نصيبًا أقل لقاء عمليات الـ"تفييش"، ومنح الامتيازات للشباب الذي يؤدي الخدمة الإلزامية.
هنا وجد الشباب المجند نفسه يعيش الحياة الطبقية، حتى خلال تأديته للخدمة العسكرية، وهو عكس ما كان يسمع من أنه "جيش عقائدي" لا يميز بين أحد، فكان الاصطدام بين أبناء الريف وأبناء المدن. فالأول قادم من بيئة اجتماعية متوسطة، وغالبًا ما يكون الأب موظفًا في إحدى المؤسسات الحكومية، في حين كان معظم أبناء المدن ينتمون إلى العائلات الميسورة ماليًا، والتي غالبًا ما يكون الأب تاجرًا صغيرًا في إحدى الأسواق الرئيسية. إلا أن هذه القسمة لم تدم طويلًا، فعاد الشباب المجند للانقسام مرًة ثانية، بعد أن فهم أبناء الريف اللعبة، وانقسم أصحاب الخدمة الإلزامية إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: وهي طبقة أبناء الوجاهات، البرجوازية البعثية الحديثة التي ساعد حافظ الأسد على نموها، وعزز وجودها بمنحها عدد من الامتيازات، ليجد أبناء التجار الصغار أنفسهم، في مواجهة مباشرة للحفاظ على الامتيازات التي حصلوا عليها، قبل أن تنسحب منهم بالتدريج، ويعوضون بامتيازات أقل شأنًا، كانت تحميهم من الأشغال والتدريبات والمهام العسكرية، والفارق بين هاتين الطبقتين كان بأن الأولى دخلت بقوة على ساحة الرشاوى، واستطاعت عن طريق نفوذها والمال، أن تبتكر مصطلح "تفييش"، أي الخدمة في المنزل، في حين لم تستطع الثانية أن تصل لطموح الأولى، فحاولت الحفاظ على الامتيازات المقدمة لها، بدرجات أقل، بعد حصول الأولى على معظم الامتيازات. والمميز في هذه الفئة أنها استطاعت المساواة بين أبناء الوجاهات من الريف والمدينة، لأن الأسد الأب كان بحاجة دعمها لبسط نفوذه.
في سوريا لا توجد أرقام تحدد الفارق الطبقي داخل القطعة العسكرية، إلا أنها تظهر من خلال حديث الضباط عن حياتهم الاجتماعية
القسم الثاني: وهو القسم الذي ينتمي لأبناء التجار الصغار، وأبناء الريف من مالكي الأراضي، والإقطاعيات البعثية، فبعد أن عرف أبناء هذه الطبقة اللعبة، بدؤوا يدخلون ساحة الصراع، والمنافسة على الامتيازات، ليجد أبناء التجار الصغار أنفسهم، في مواجهة مباشرة مع أبناء الريف، لأن لكل امتياز ثمن. فهذه الطبقة وجدت نفسها في مواجهة مباشرة مرًة ثانية، في الدفاع عن الامتيازات التي حصلت عليها، بعد أن حددت حجمها، طبقة أبناء الوجاهات، والبرجوازية البعثية الحديثة، فكانت كلما سحب منها امتياز، أوجدت بدلًا منه امتيازًا آخر، لتبقى الكفة متأرجحة بين الفئتين، لا غالب ولا مغلوب.
القسم الثالث: وهم أبناء الطبقة الفقيرة، وهي الطبقة التي نشأت وبدأت تتكاثر مع بسط حافظ الأسد يده على السلطة، وغلاء الحياة اليومية، هؤلاء يمكن تسميتهم بـ "محرقة المؤسسة العسكرية"، لأنهم كانوا محرومين من كافة الامتيازات التي كان يحصل عليها أبناء الطبقات السابقة، كالإجازات، المهام، والعقوبات، ولهذا نجد أن الصراع بين الطبقتين السابقتين، وهذه الطبقة، كان شديدًا، وقابلًا للاصطدام في أي لحظة، لشعورهم بالظلم وعدم المساواة، بينما كان ينظر أبناء الطبقات الأخرى إليهم، نظرة تعالٍ وشفقة.
القبضة التي بسطها حافظ الأسد بدأت بالتفكك، بعد وراثة بشار الأسد للسلطة
كذلك يمكننا أن نجد ذات الفوارق لدى الضباط المتطوعين في المؤسسة العسكرية كل بحسب رتبته العسكرية، فكانت رتب الأفراد وصف الضباط هي الطبقة التي تعيش على راتبها الشهري، وكانت نسبة قليلة جدًا منهم، يمكنها أن تحصل على رشوة، بينما كان بإمكان الضباط الأعوان الحصول على رشاوى لتحسين وضعهم المادي، إذا كانوا أعلى رتبة عسكرية في القطعة العسكرية، النسبة الأكبر من الضباط المستفيدين من رتبهم العسكرية كانت للضباط القادة الذين كانوا يملكون القرار في معظم القطع العسكرية، وبالتالي كان بإمكانهم التحكم بدخلهم الشهري بالشكل الأمثل، ويأتي في المرتبة الأولى الضباط الأمراء، وهؤلاء كانت لهم حصة الأسد من الدخل الإضافي، لأنهم كانوا يشاركون في عمليات فرز المجندين إلى قطعهم العسكرية.
الصورة السابقة للمؤسسة العسكرية التي أسس منظومتها الجديدة حافظ الأسد بعد انقلاب "8 آذار"، ساهمت في بناء تشكيل هرمي للسلطة في سوريا، وبناء طبقات بين الأفراد أنفسهم، لا توجد إحصائية رسمية يمكنها تحديد حجم الفارق الطبقي داخل القطعة العسكرية نفسها، إلا أنها كانت تظهر بشكل واضح من خلال حديث الضباط عن حياتهم الاجتماعية، والاصطدام الدائم معهم، وهو ما جعل التحالفات داخل القطع العسكرية، قائمة على حجم الفارق الطبقي، ففي الوقت الذي كان يبحث فيه أبناء الوجاهات والتجار الصغار عن مدخل للتقرب من الضابط المسؤول، كان أبناء الفقراء يرشون أحد "المساعدين" بعلبة سجائر لتأجيل خدمة الحرس.
اقرأ/ي أيضًا: