"لكل شيء أصل"، هذه الجملة أتعبت الباحثين عن الحقيقة، لكنها جعلتهم في النهاية قادرين على الوقوف على الصورة الكاملة بعد جمع الفسيفساء الصغيرة لكل حادث وحديث. ما نحاول أن نجيب عنه هنا هي الأسئلة القديمة المتجددة في كل مواجهة صغيرة أو كبيرة مع الولايات المتحدة، وتتمثل تحديدًا في سؤال كبير عن الجذور السياسية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط.
الخليج كأهم جائزة مادية في تاريخ العالم
في دراسة حول تاريخ الاستراتيجية السياسية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، يبدأها الصحفي والباحث الأمريكي شيلدون ريتشمان بمقولة مؤسسة: "لو كانت موارد الخليج العربي هي الموز -مثلًا- لما حظيت بانتباه الولايات المتحدة". النفط إذن هو القصة.
الاكتشافات المتتالية للنفط وضعت الجزيرة العربية في عيني الولايات المتحدة، التي سارعت لالتقاط ما خسرته بريطانيا العظمى هناك
شمّرت شركتان للتنقيب عن النفط، سواعدهما لبدء العمل، وهما ستاندرد أويل أوف مكسيكو وشركة تكسيكو في الخليج. وكانت الغنائم فاتحة للشهية ومبشرة بخير وفير. وبالجملة، كانت جهود التنقيب عن النفط قد بدأت في عشرينات القرن الماضي، قبل أن يكتشف النفط في البحرين ثم في السعودية، في وقت متقارب من نهاية العقد الثالث من القرن التاسع عشر، وبعدهما اكتشفت شركة جولف أويل مع شريكتها البريطانية أنجلو برسيان أويل، النفط في الكويت. هذه الاكتشافات المتتابعة للذهب الأسود، وضعت الجزيرة العربية، أو المنطقة التي ستعرف لاحقًا بمنطقة الخليج العربي؛ في عيني الولايات المتحدة الأمريكية.
اقرأ/ي أيضًا: هل يودع العرب "زمن النفط الجميل"؟
يُوضح ريتشمان قائلًا إنّ ما خسرته بريطانيا العظمى آنذاك في المنطقة، سارعت الولايات المتحدة بالتقاطه لتتسيّد القوة هناك، فبعد أنّ تأكدت مصادر النفط في المنطقة، سارعت الولايات المتحدة بكل طاقتها إلى حماية قدرتها على الوصول لتلك المناطق. هذا الجهد الأمريكي، وهذه الحماية، عززت من سيادة الولايات المتحدة في العالم. إنّه النفط مرة أُخرى ودائمًا؛ لذا فقد حمت الولايات المتحدة الأنظمة العربية التي تعتبرها "معتدلة" من جهة قدرتها على التعامل معها بشكل مُربح، وذلك لتبقي نفط المنطقة في أيدٍ صديقة، هذه الخطة هي لب "الاستقرار الإقليمي" الذي طالما نشدته الولايات المتحدة.
هذا الاستقرار الإقليمي يُقصد به خريطة قوى واحدة لا تتغير كثيرًا، أو بشكل جذري، تستطيع من خلالها الولايات المتحدة بسط نفوذها في المنطقة، إلى العالم. لكن هل هدد هذا الاستقرار الإقليمي؟ يُجيب ريتشمان على ذلك قائلًا إنّ "التهديدات السوفيتية وأطماع الساسة السوفييت في المنطقة لم تُؤخذ أبدًا على محمل الجد من قبل الولايات المتحدة، لكن التهديد الحقيقي كان في صعود القوميتين العربية والإيرانية.
حملت إجابة ريتشمان أيضا ما أشار إليه محلل السياسي الخارجية والمؤرخ، الأمريكي، روبرت تاكر، الذي عزز فكرة استيلاء الولايات المتحدة على مصادر النفط عسكريًا بقوله: "إن صعود القومية العربية أوالأصولية الإسلامية، ليس بالضرورة أمر يتسق مع مصالح الولايات المتحدة، وقد يهدد قيادة الولايات المتحدة الاقتصادية والسياسية في العالم، وبالتالي أرباح الشركات المرتبطة مباشر باقتصاد الدولة".
وأضاف روبرت تاكر أنّ "الخليج يشكل المفتاح الذي لا غنى عنه في الدفاع عن الوضع السيادي للولايات المتحدة ". وفي أثناء الحرب العالمية الثانية، قال لوي هندرسون، وكان مسؤولًا عن ملفات الشرق الأوسط في وزارة الخارجية الأمريكية، إنّ "هناك حاجة لدورٍ أكبر تلعبه الولايات المتحدة في المقدرات السياسية والاقتصادية في الشرق الأوسط، وخاصة فيما يتعلق بحقول النفط".
لم تأخذ أمريكا التدخلات السوفيتية في المنطقة على محمل الجد، إذ كان التهديد الحقيقي متمثلًا في صعود القومية العربية والإيرانية
وتذكر دراسة ريتشمان أنه أثناء الحرب العالمية، عملت شركتان أمريكيتان للحصول على حقوق التنقيب عن النفط في إيران، الأمر الذي وضع الولايات المتحدة في مواجهة مع بريطانيا والاتحاد السوفيتي، بصفتهما القوتين المحتكرتين للتنقيب في إيران خلال فترة ما بين الحربين العالميتين"، لكن رغم هذا الاحتكار السوفيتي البريطاني للتنقيب عن النفط في إيران، إلا أن السلطات بقيادة رضا شاه بهلوي، سعت لاستدعاء الولايات المتحدة كشريك ثالث للتنقيب عن النفط لدعم أمن واستقرار البلاد، والتقليل بالمنافسة من النفوذ الأجنبي داخل البلاد.
اقرأ/ي أيضًا: الإعفاءات الأمريكية لإيران.. هل سيحصل أي تغيير؟
ومن نقاط التحول التي يذكرها ريتشمان في دراسته، هو شعور الولايات المتحدة بعدم سيطرتها الكاملة على المنطقة، لذا قررت تعيين مستشار للنفط في وزارة الخارجية الأمريكية، ليعد دراسة حول السياسة النفطية الأجنبية، توقع فيها انخفاض عائدات النفط المحلية، ويُؤكد على أهمية ضمان وصول اليد الأمريكية لمصادر النفط الأجنبية.
هكذا باختصار تشكلت علاقة الولايات المتحدة بالمنطقة خلال العقود الأولى من القرن العشرين، وهكذا اتضحت صورة المشهد الأهم في قصتنا.
إيران وستالين.. قصة سيطرة لم تكتمل
يصف ريتشمان المشهد السياسي بعد الحرب العالمية الثانية، بقوله: "تمركزت القوات الأمريكية غير المقاتلة في إيران للمساعدة فى نقل المعدات والإمدادات للاتحاد السوفيتي، واحتل الجيش الأحمر الجزء الشمالي من البلاد عام 1941، أما البريطانيون فقد كانوا في وسط وجنوب إيران".
وأضاف ريتشمان: "في المعاهدة التي تم توقيعها عام 1942 بين الاتحاد السوفيتي وبريطانيا، أكدت الأخيرة أن وجودها في إيران ليس احتلالًا وأنها ستنسحب في غضون 6 أشهر للمساعدة في إعادة بناء وتطوير إيران بعد الحرب".
وفي طهران، عام 1943، عُقد مؤتمر تعهدت فيه كل من الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد السوفيني، بالمساعدة في إعادة إعمار إيران وتنميتها بعد الحرب. كما أعطت الدول الثلاثة ضمانات للسيادة البريطانية على اراضيها.
لكن القوات السوفيتية لم تفِ بوعدها ولم تنسحب في إيران، لأن ستالين رأى أن الجزء الذي احتله من إيران بالغ الأهمية للأمن القومي السوفيتي، هذا الجزء كان الجنوب الإيراني الغني بالنفط.
حاول السوفييت بسط سيطرتهم على إيران ومواردها النفطية لكن الأمريكان وقفوا لهم بالمرصاد حتى خلا الجو تمامًا للولايات المتحدة
في المقابل لم يُعجب الولايات المتحدة التدخل السوفيتي في الشؤون الإيرانية، وهكذا هي الأمور دائمًا حين لا يكون التدخل في الشؤون الداخلية أمريكيًا، لذا اتجه الرئيس الأمريكي آنذاك، هاري ترومان إلى مجلس الأمن ليندد بالممارسات السوفيتية في إيران، والتي ساهمت في اشعال النعرات الانفاصلية.
اقرأ/ي أيضًا: السعودية وإيران.. إنه النفط
تكللت الجهود الأمريكية بالنجاح في النهاية بإخراج السوفييت من إيران، وتخللتها بعض التهديدات الأمريكية بإرسال قوات إلى هناك إذا لم ينسحب ستالين، وربما كانت للتهديدات تلك أثرها في تسريع عملية الانسحاب السوفيتي.
انتظرت الولايات المتحدة حتى صعد محمد رضا بهلوي للحكم، فساعدته بقوة للقضاء على الانفصاليين، ومن خلاله اعترضت أي تدخلات خارجي للحصول على امتيازات اقتصادية في إيران، ليخلوا الجو للأمريكان لعقود في إيران، ومعها من قبلها منطقة الخليج.
اقرأ/ي أيضًا: