هل المتعة التي نجنيها من قراءة حوار مع روائي ذي مشروع حقيقي، هي نفسها التي نجنيها من قراءة إحدى رواياته؟ وهل الأفكار التي يزرعها في هذا الحوار هي نفسها التي ينطلق منها فعلًا في كتابة ما يكتب؟ أم أن هناك هوة بين المتن والتفكير؟ ثم لماذا يجري الروائي أصلًا حوارات يشرح فيها نظرته/نظريته، ما دامت فلسفته تتجسد في نصوصه؟
هل المتعة التي نجنيها من قراءة حوار مع روائي هي نفسها التي نجنيها من قراءة إحدى رواياته؟
يطرح كتاب "حوارات لقرن جديد" (منشورات المتوسط، 2016) الكتابة رديفا للحياة، بكل تجلياتها الاجتماعية والسياسية، بحيث لا يمكن للكاتب أن يفصل بين نصه وموقفه من هذه التجليات، موافقة ومعارضة، حتى تتحول متونه، بالإضافة إلى أبعادها الجمالية، إلى وثيقة على عصره، وما شهده من أحداث وتحولات.
اقرأ/ي أيضًا: مدونة أمبرتو إيكو.. حدود المعرفة وفضاء الخيال
يضم الكتاب حوارات مع ثمانية روائيين عالميين، من أجيال وعوالم مختلفة، لكنهم يلتقون في أنهم تفاعلوا مع لحظتهم وكتبوا لها وعنها، بل إن بعضهم كابد من أجل ذلك مكابدات كادت أن تودي بحقه في الحياة أصلًا، بالنظر إلى خوضه فيما يعتبره قانون بلاده خطًا أحمر. هؤلاء الروائيون هم: التركي أورهان باموق، واللبناني أمين معلوف، والكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، والكورسيكي فيراري جيروم، والإيطالي أمبرتو إيكو، والصيني داي سيجي، والإيفواري أحمدو كوروما، والبيروفي ماريو فارغاس يوسا.
حاولت الحوارات التي أجرتها نخبة من الصحف والمجلات الوازنة في العالم، وترجمها محمد الجرطي، أن تقبض على "الأدب بين التخييل الذاتي والتخييل التاريخي"، وهو العنوان الفرعي للكتاب، من خلال تجارب استطاعت أن تقنع العالم بنصوصها، في لغاته الواسعة والمحدودة، وتساهم في تشكيل وعيه الأدبي والوجودي، رغم كل الإكراهات التي اعترضت سبيلها في ذلك، فأثرت فيه مثلما أثر فيها.
يقول أورهان باموق سليل مدينة إسطنبول (1952) إنه تمت ملاحقته أمام القضاء التركي بتهمة إهانة الدولة وشخصية كمال أتاتورك، وفق الفقرة 301 من القانون المعمول به، لكن القضاء خضع للضغوط الدولية وتم تخفيف الحكم عام 2006، غير أن تهديدات جادة بقيت تلاحقه، مما حمله على المغادرة إلى الولايات المتحدة. يعترف صاحب "اسمي أحمر" بأنه كتب مقالات سياسية حماسية بطلب من بعض الساسة، لكنه سرعان ما تفطن إلى خطأ الخطوة وأعرض عنها. "كنت أعتقد أن تركيا وأوروبا قادرتان على العيش في وفاق، ثم أدركت أنه لا جاذبية بينهما، فقررت أن أتفرغ لرواياتي". يضيف: "لقد تغير مزاجي وحالتي الوجدانية، وما يهمني الآن هو استكشاف التغييرات".
من جهته يقول أمين معلوف (1949) إن لبنان بات يعيش تحت "توازن غير مستقر"، إذ يتميز بلحظات من الصراع ثم المصالحة المؤقتة، تأثرًا بما يجري في محيطه. "أنا من أنصار أن نكافح من أجل هوية لبنانية غير مخترقة، لكنني ألاحظ أن الغلبة باتت لقادة الفصائل والزعماء الدينيين". وأقر صاحب جائزة الكونغور كبرى الجوائز الأدبية الفرنسية، بأن جهوده في التقريب بين الشرق والغرب تتجه نحو الإخفاق، "لكنني أقاوم بإصرار رغم كل شيء، وأقول إن العالم غير قابل للاستسلام لهذه الصراعات إلى الأبد". ولم يخف خليفة كلود ليفي ستروس في الأكاديمية الفرنسية أنه عاش أحداث الربيع العربي بنشوة منذ اليوم الأول، مستشهدًا بمقولة لهولدرين "حيث يوجد الداء الأسوأ يوجد الدواء المنقذ".
إيكو: لا أنزعج من هيمنة الآيباد رغم أنني أملك 50 ألف كتاب ورقي منها 1000 كتاب نادر
ولم يخل الحوار الذي أجرته "مجلة الكتاب" عام 1990 مع غابرييل غارسيا ماركيز (1927-2014) من توابل الواقعية السحرية التي عدت رواياته، خاصة "مئة عام من العزلة"، نموذجًا حقيقيًا لها، من ذلك أنه كان ينوي أن يكتب رواية عن نهر ماغدلينا الذي نزل إليه 11 مرة، حتى صار يعرف قراه واحدة.. واحدة، وإذا بها تطلع عن السفر الأخير للجنرال سيمون بوليفار. "ولأن سفره هذا لم يحظ بتدوين المؤرخين، فقد وجدت مخيلتي فرصة ذهبية للتحليق". هذا لا يعني بحسب صاحب "الجنرال في متاهته" أنه لم يقرأ ما يجب أن يقرأه في هذا السياق، حتى أنه قام ببحوث مضنية عما إذا كان الجنرال يحمل نظارات مثلًا. "بوليفار الحقيقي هو الذي يتمايل عاريًا في أرجوحة نومه".
اقرأ/ي أيضًا: نيرودا وماركيز.. قصة دردشة معلنة
ويقول فيراري جيروم سليل جزيرة كورسيكا (1968) إن الكتابة هي ما يجعل الواقع مرئيًا، وهو المعطى الذي يجعل الفصل بين الشكل والمضمون مستحيلًا. "كتبت عن الغزو الفرنسي للجزائر في روايتي "حيث تركت روحي" بعد أن درست الفلسفة في الجزائر ولاحقتني أشباح التاريخ، فكانت رواية عن التعذيب لأنه ما يربط الفرنسيين بالجزائريين، والطاهر في الرواية هو العربي بن مهيدي". يضيف: "حرصت على أن يكون خطاب تبرير التعذيب عقلانيًا، في مقابل صعوبة تصديقه من طرف القارئ".
في السياق، يعترف أحمدو كوروما (1927) بأنه خضع للحقائق في كتابة رواياته، منها الاحتلال الفرنسي لبلاده ساحل العاج، وأنه استعمل أسماء حقيقية في روايته "في انتظار تصويت الحيوانات البرية"، مثل موبوتو والحسن الثاني، لكن ناشره الفرنسي طلب تجنب ذلك حتى لا يتم الوقوع في مشاكل قانونية. "منحت اسم صديق توغولي للرئيس سيلفانوس أولمبيو، فلما علم بالأمر جن جنونه وكان علي إتلاف 5000 نسخة من الرواية".
ويبدي أمبرتو إيكو (1932-2016) انزعاجه من حصره في رواية "اسم الوردة" التي تزيد مبيعاتها كلما نشر رواية جديدة، "لكنني لا أنزعج من هيمنة الآيباد رغم أنني أملك 50 ألف كتاب ورقي منها 1000 كتاب نادر". ويرى أن العالم يخضع للتزييف منذ آلاف السنين.
راجع يوسا علاقته بالرئيس الكوبي كاسترو بعد أن حاكم صديقه الشاعر باديلا
اقرأ/ي أيضًا: 5 روائيين يجيبون عن سؤال: كيف تكتب الرواية؟
هذا الزيف في الخطاب الشيوعي الصيني هو الذي حمل داي سيجي (1954) على كتابة روايته "بلزاك والخياطة الصينية الصغيرة"، مستفيدًا من تجربته في التطوع القسري في الريف، بعد أن عده الحزب الحاكم بورجوازيًا يحتاج إلى تأهيل ثقافي.
ويقر ماريو فارغاس يوسا (1936) بأنه كان يناصر الثورة الكوبية ويعتبرها رمزًا للحرية والانعتاق، لكنه راجع علاقته بالرئيس كاسترو بعد أن حاكم صديقه الشاعر باديلا. ولم يجد مبررًا لترشحه لرئاسيات بلاده عام 1990، لذلك أعرض عن السياسة بعدها، وتفرغ للكتابة ومتابعة الشأن العام عن بعد. "لقد صرت مقتنعًا بأفكار ألبير كامو الذي كان يقول إنه لا يجب فصل السياسة عن الأخلاق دون إحداث زوبعة بخصوص ذلك".
اقرأ/ي أيضًا: