لم يكن ليودّع السعوديون سنة عاصفة بتغيرات دراماتيكية، تحارب خلالها الأمراء وحوصر خلالها الجار، ودُفعت فيها المليارات رشاوى مقنعة لترامب، وتقارب خلالها الود أكثر مع الصهاينة، حتى حلت سنة جديدة حملت في بدايتها زيادات تاريخية في أسعار النفط بلغت 128% بالتوازي مع فرض ضريبة القيمة المضافة، وذلك في إطار سعي الحكومة لتخفيف أعباء عجز الموازنة.
حملت بداية هذه السنة زيادات تاريخية في أسعار النفط في السعودية بلغت 128 % بالتوازي مع فرض ضريبة على القيمة المضافة، وذلك في إطار السعي لتخفيف عجز الموازنة
ومن خلال جولة على مواقع التواصل الاجتماعي، يتبين الحنق الشعبي داخل المملكة كما عبر عنه التفاعل الواسع مع وسم #الراتب_مايكفي_الحاجه، حيث لا يتعلق الأمر فقط بالنسبة للسعوديين في زيادات مرتفعة لم يتعود عليها مجتمع رفاهي في بلد ريعي، بل كذلك الخشية من دخول حقبة جديدة بمغامرة غير محسوبة العواقب، يقودها أمير أقل ما يوصف به أنه غير ناضح، وضحيتها لن تكون إلا جيوب الطبقات المتوسطة والضعيفة.
اقرأ/ي أيضًا: طلال بن عبد العزيز مُضرب عن الطعام.. "الأمير الأحمر" يرفض سياسات ابن سلمان
رؤية 2030.. مشروع تسويق سياسي
لا تأتي حزمة الزيادات الأخيرة فقط في إطار عجز الموازنة العامة بعد تراجع العائدات المالية نتيجة انخفاض أسعار النفط، بل كذلك في إطار السعي لتمويل رؤية 2030 التي تروج لها الدعاية الإعلامية لابن سلمان كمشروع نهضوي وطني سينقل المملكة من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد متنوع. يريد ابن سلمان عبر هذه الرؤية أساسًا الترويج لنفسه كصاحب مشروع وذلك لشرعنة صعوده الجاري بالحديد والنار نحو العرش، وبذلك لا يعدو أن تكون الإصلاحات الاقتصادية ومن ضمنها المشاريع الضخمة كمدينة نيوم إلا عنوانًا تسويقيًا بالأساس، وتحوم الشكوك حول قدرة مجمل هذه الإصلاحات على تحقيق أهدافها المعلنة.
تأتي حزمة الزيادات الأخيرة في السعودية في إطار السعي أيضًا لتمويل رؤية 2030 التي تروج لها إعلاميًا لكن تحوم شكوك عديدة حول حقيقة أهدافها
يعود مرد الشكوك في جزء منها لوجود آلة دعائية ضخمة تبيع أحلامًا وردية للمجتمع السعودي التائق على الأقل في جزء منه لنقلة مجتمعية اقتصادية تنزع عنه صفات الاستهلاكية والخمول والرتابة، ذلك أن مثل هذه الدعايات الجارية يكشف البعد التسويقي بما هو البعد الدافع بل والمراد أصلاً من وراء الحديث عن التغيير ومستقبل أفضل وغيرها من التيمات المثيرة. في خضم ذلك، تأتي دعوة السعوديين للمساهمة في أعباء هذا التغيير الموعود، ولكنها دعوة في جوهرها مباركة لقافلة لا تزال مجهولة المسير.
وحينما يأتي الحديث عن خصخصة جزء من أرامكو، البيضة الذهبية كما يصفها السعوديون، وثم تأتي زيادات غير مسبوقة لأسعار النفط الذي تتصدر المملكة قائمة مصدريه، فحينها تحل شيئًا من الخشية التي ترتقي لدرجة الخوف عن اللقمة، تم التعبير بوضوح عنها بوسم #الراتب_مايكفي_الحاجه. وفي هذا التعبير رسالة حول تفاعل الرأي العام السعودي ومواجهته للحاكم بسؤال عن الراتب وذلك في طريق كسر حاجز الصمت الذي ساد بلبوس ديني بعنوان أن الحاكم هو الأعرف بالمصلحة العامة ولا تجوز مجادلته علنًا.
وهذا ما يطرح تحديًا على السلطة الحالية حول مدى سعة صدرها للاستماع لانتقادات المواطنين، في الوقت الذي "تحمل فيه هذه السلطة داخليًا وخارجيًا لواء تحرير المجتمع وتعزيز الحقوق والحريات". طبعًا هو لواء بغاية التسويق لمشروع سياسي مرة أخرى، فالواقع أبعد ما يكون عن عنوانه، مع استمرار اعتقال عشرات رجال الدين والكتاب الذين لم يعودوا مطالَبين بالسكوت، بل بالانضمام للجوقة، ودون ذلك فهم خصوم مكانهم السجون.
يظهر حنق شعبي داخل المملكة من خلال التفاعل الواسع مع وسم #الراتب_مايكفي_الحاجه، في مجتمع رفاهي وبلد ريعي لم يعتد بهكذا زيادات
اقرأ/ي أيضًا: السعودية تطبّق رسوم مرافقي العمالة الوافدة.. وجه جديد لجباية الإفلاس؟
أمير النزوات البائس
في الأثناء، تأتي في سياق الايهام بالمساواة والعدالة وبوجود شراكة في تقاسم الأعباء، الحملة التي يقودها ابن سلمان ضد أفراد أسرته منذ أسابيع، وذلك عبر حجزهم ومقايضة حريتهم بمساومات مالية في غياب أي مسار قضائي ولو شكلي على الأقل يفيض بوجود تتبعات جدية للقضاء على الفساد في المملكة عمومًا وفي الأسرة الحاكمة خصوصًا. إذ تهدف هذه الحملة لتحقيق هدفين جوهريين أولهما تحييد الأمراء الرافضين للصعود الدموي لابن عمهم الصغير، وثانيًا، وهو ما لا يقل أهمية عن الهدف الأول، هو تعبئة الخزينة العامة بأموال المساومات المالية، والتي لليوم لا تعرف طريقة احتسابها إما بحسب ثروة الأمير المعتقل أو بحسب جرائمه غير المعلومة أسانيدها للعموم أم ماذا، لتظل الإجابة حبيسة أهواء ابن سلمان وغرفه المغلقة.
ولكن لم يقدر بعد ابن سلمان ولا آلته الدعائية على إقناع السعوديين بالجدية في مكافحة الفساد، ليس فقط للاختلالات وافتضاح دوافع حملته المزعومة، بل كذلك بالنظر لنزوات ابن سلمان نفسه. يخت ملكي بقيمة 550 مليون دولار، ولوحة بقيمة 450 مليون دولار، قصر بفرنسا بقيمة 300 مليون دولار، وربما ما خفي أعظم، هذا كشف لهذه النزوات لأمير قال، بحسب المدون مجتهد، إنه "سيكون أغنى رجل في التاريخ". وطبعًا دون نسيان مغامرة ابن سلمان في اليمن التي بدأها منذ توليه وزارة الدفاع والتي تحولت إلى مستنقع سعودي يمتص أموالًا ضخمة دون أي قدرة سعودية بعد على إسقاط الحوثيين بل حتى إبعادهم عن العاصمة صنعاء.
من جانب آخر، يتبين بالكاشف سيطرة منطق الحسابات والنزوات في تسيير البلاد في الملف المالي من خلال إلغاء المكافآت والبدل في 2016 ومن ثم إعادتها في نيسان/أبريل 2017 وذلك بادعاء تحسن المداخيل، وهو ادعاء دون سند بدليل استمرار اتخاذ إجراءات على حساب المواطنين عبر الزيادات في السلع الأساسية وفرض ضريبة القيمة المضافة، حيث أن الدوافع الحقيقية لقرار الإعادة كانت دعائية بحتة وذلك استباقاً للإطاحة بولي العهد محمد بن نايف بعد أسابيع وقتها. بالنهاية، يجد السعوديون أنفسهم يدفعون ثمن نزوات الأمير البائس، ويرقبون المستقبل بعين الحذر والحيطة.
اقرأ/ي أيضًا:
بسبب جرائمها في اليمن.. ضغوط أوروبية لوقف بيع السلاح للسعودية
مسؤولة أمريكية تقرّ بانتهاكات السعودية في اليمن.. فهل يُحظر بيع السلاح لها؟