تتوفّر المكتبة الجزائرية على أكثر من بحث علمي في دور الأسواق الشعبية الأسبوعية، في الحفاظ على روح الجماعة، داخل الفضاء الجزائري، وفي تشكيل الوعي الوطني الذي مهّد لثورة التحرير في خمسينيات القرن العشرين، من خلال احتضانها للتعابير والطقوس الشعبية التي تشكّل الهوية الوطنية التي كانت عرضة لسياسة طمس مدروسة من طرف المؤسسات الفرنسية المختلفة ما بين سنتي 1830 و1962.
للأسواق الشعبية الأسبوعية في الجزائر دور في احتضان الطقوس الشعبية التي تشكل هوية البلاد
وحافظت هذه الفضاءات الشعبية على هذه الرّوح، خلال العقود الثلاثة التي تلت الاستقلال الوطني، بالنّظر إلى انسجامها مع البنيتين الاجتماعية والاقتصادية اللتين كانتا سائدتين حينها، حيث كان صوت الجماعة مسموعًا، والنظام الاقتصادي اشتراكيًا، ثم بدأت تخبو بفعل التّحولات المختلفة التي مسّت الحقول المختلفة، بكلّ ما ترتّب عنها من انزياحات في أنماط التفكير والسّلوك، بما فيها السّلوك الاستهلاكي، حتى لم تبقَ منها إلا أعداد قليلة في مناطق قليلة.
اقرأ/ي أيضًا: رمضان الجزائر.."ضيف خفيف" بعادات وأطباق متميزة
يأتي سوق مدينة حمّام الضّلعة التابعة إداريًا لمحافظة المسيلة، 250 كيلومترًا جنوبًا، ضمن أكثر هذه الأسواق التي بقيت محافظة على نشاطها، بالطقوس نفسها التي عُرف بها السّوق الشعبي الأسبوعي الذي يُنسب عادةً إلى اليوم الذي يُقام فيه من الأسبوع، ويُنسب سوق حمّام الضّلعة إلى يوم الاثنين، الذي تتحوّل صبيحته إلى مهرجان مفتوح في الهواء الطلق، حيث يستطيع الباحثون في الاقتصاد والاجتماع والثقافة الشعبية أن يتخذوا منه عيّنة لرصد ما يعنيهم من علامات، في مجتمع يعتمد على الرّعي والفلاحة، بالموازاة مع انخراطه في عالم الآلات المختلفة.
انتابني إحساس بأني أدخل زمن الأبيض والأسود، وأنا أدخل السّوق، فقد وقعت عيناي على سلع نادرًا ما توجد في الأسواق المعاصرة، مثل الخرّوب والتّين المجفّف وزيت الزّيتون واللحم المقدّد والكحل الخاصّ بالعيون وأوراق الحنّاء وورق التبغ الذي يُخزّن تحت الشّفاه المعروف شعبيًا بالـ"شّمّة" والجبّة الرّجالية المعروفة بـ"القشّابية"، تصنع إمّا من الصّوف وإمّا من وبر البعير.
كما رأيت لحوم حيوانات لا تُستهلك على نطاق واسع، في مناطق أخرى، مثل الماعز والأرانب والجمال والأحصنة والإوز والدّجاج البلدي، عند مدخل القسم المخصّص للماشية. يقول العم العمري: إنها "لحوم حيّة، إذ عادةً ما نذبح حيواناتنا أمام أعين زبائننا، ولأنها باتت نادرة، فنحن نستقبل زبائن من مدن بعيدة، بعضهم يطلبها للمتعة والبعض للعلاج".
أكثر ما يُثير في قسم الماشية، أنّ معظم باعته من الشّباب، عكس المتوقّع تمامًا، ذلك أن المنطقة معروفة أيضًا بالمتاجرة في السّيارات والشّاحنات والجرّارات وقطع الغيار، وهو الحقل الذي يُفترض أنه يغري الجيل الجديد. شابّ لم يبلغ العشرين يعرض كبشًا أو تيسًا أو خروفًا أو نعجة أو عنزة أو أكثر، مع معرفة عميقة بطبيعة الأسعار، والرّدود التي تقال في مقام البيع، ذلك أن هناك قاموسًا خاصًّا بتجّار الماشية، تمامًا كما أن هناك قاموسًا خاصًّا بتجار السّيارات أو الأسماك أو الذّهب.
اقرأ/ي أيضًا: دكاكين الكتب المستعملة... وجه آفل لمدينة عمان
يقول أحد هؤلاء الشّباب، إنه لم يرث عن جدّه "سعد" مهارة أن يبيع ويشتري رأسًا أو قطيعًا فقط، "بل ورثت عنه اسمَه أيضًا. لقد أطلقه علي يوم ولدت، ووفائي لاسمه وتجارته أكسبني عيشًا حلالًا". سألناه: "هل عيّرك أحد من أترابك، بكونك تشتغل في سوق الماشية يا سعد؟"، فقال: "الأولى بأن يشعر بعقدة النقص هو من يدفع ألف دينار مقابل كيلوغرام من اللحم، وخمسةً وعشرين دينارًا مقابل لتر من الحليب المصنّع، وهو قادر على أن يربّي عنزة أو بقرة حلوبًا". يضيف بثقة: "هل أخرجنا فرنسا لنستورد منها اللحم والحليب، ونحن نملك كلَّ هذه الأرض؟".
تتعالى أصوات باعة الأعشاب الطبية في سوق حمام الضلعة الجزائري، أين يصدق الناس العشابين أكثر من الأطباء
باع سعد تيسه، هنا يودّع التاجر ما يبيع من ماشية بحزن، فبينهما علاقة خاصّة، ودعانا إلى كأس "شاي أحمر" في إحدى الخيام المنصوبة في السّوق، فكان ذلك مدخلًا لمعرفة أن هذه الخيام ليست فقط فضاءاتٍ لتقديم الشّاي والقهوة المعدّة على الجمر، تسمّى "الجزوة"، والنقانق المشوية التي تستقطب الأفواه من مناطق بعيدة، بل هي فضاءات لعقد الصّفقات التجارية، وترميم العلاقات الإنسانية أيضًا. ولأعيان المنطقة أدوار حاسمة في ذلك. يقول الحاج الخثير: "طول عهدنا بالسّوق جعلنا نعرف بعضنا جيّدًا، رغم تباعد قرانا، ونحن نتدخل وديًّا لإتمام خطبة أو عقد مصالحة أو حلّ خلاف أو جمع تبرّعات تذهب إلى بناء جامع أو دفع ديّة".
تتعالى أصوات باعة الأعشاب الطبية ومبيدات الحشرات والعسل وزيت الزيتون، من خلال مكبّرات الصّوت، مشكّلين حولهم تجمّعاتٍ صغيرةً، سرعان ما تكبر بسبب الصّفات السّحرية التي يطلقونها على سلعهم. "عليكم أن تفهموا تأثير هؤلاء، في إطار السّياق الاجتماعي الذي يميل إلى تصديق العشّابين أكثر من الأطبّاء". قال سليم الذي يدرس علوم الإعلام والاتصال في جامعة المسيلة. وأضاف: "يشبه هذا السّوق وكالة أنباء لا يخفى عنها خبر من الأخبار، فالجميع هنا يتبادلون أخبار بعضهم، حتى أن الواحد منهم يعرف أن فلانًا ذاهب، مثلًا، إلى العمرة أو قدم منها، ويعرف كم رأسًا من الماشية باع فلان وإلى أيّهم آلت".
من جهته، ينبّهنا العم سليمان إلى أن المقبل على شراء الخضر والفواكه، لا يحتاج إلى السّؤال عن جِدّتها، ذلك أنّ معظمها قادم من القرى المجاورة، "إنها مليئة بالماء، لأن المسافة التي تفصلها عن السّوق قصيرة، كما أنها تغذّت على الأسمدة الطبيعية لا الكيماوية، وهذا ما يجعلها لا تشبه خضر وفواكه الأسواق الأخرى لونًا وطعمًا وشكلًا ورائحةً".
وقد لاحظنا، عند تجولنا في السوق، وجود الشّيوخ والكهول والشّباب والمراهقين والأطفال الذين تحتفل أسرهم بأول دخول لهم إلى السّوق، ولهذا طقوس خاصّة، لكننا لم نلاحظ امرأة واحدة، لا بائعة ولا زبونة، ذلك أن شعار القوم: "الرّجل هو من يمدّ والمرأة تشدّ". دلالة على وجوب تكفّله بها أثناء مكوثها في البيت. هكذا يقتصر حضورها في السّوق، على الموادّ التي تختصّ بإنجازها في البيت، مثل المواعين الطينية والمنسوجات الصّوفية.
اقرأ/ي أيضًا: