يواظب "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" على إصدار عدد من سلاسل الكتب، من بينها "طي الذاكرة" التي تُعنى بنشر، أو على وجه الدِّقة إعادة طبع، أعمال فلسفية وتاريخية وسياسية كُتِبت أو تُرجِمت إلى العربية قَبل عقود من الزمن. يأتي كتاب "السياسة" لأرسطو طاليس، مترجمًا عن الفرنسية من قِبل التنويري المصري أحمد لطفي السيد، كأحدث ما يصدر عن هذه السلسلة من كلاسيكيات.
يأتي كتاب "السياسة" لأرسطو طاليس كأحدث ما يصدر عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"
في مؤلَّفه "الأخلاق النيقوماخية"، يتناول أرسطو (384-322 ق.م) الحياة السعيدة في علاقتها بالفضيلة، وفي "السياسة"، عبر تحليله أنماط المجتمع السياسي القائمة في عصره، يتناول الدور الذي ينبغي أن تلعبه السياسة والمجتمع السياسي من أجل تحقيق الحياة الفاضلة للمواطنين.
اقرأ/ي أيضًا: المركز العربي يقارب الذكرى المئوية للحرب العالمية
على الرغم من تجاوز مجتمعاتنا الحالية لبعض أفكاره، من قبيل اعتقاده في دونية المرأة وإيمانه بالعبودية، ما زال هناك الكثير الذي يمكن أن نستفيد منه في فلسفة أرسطو. مثلًا، اعتقاده أن المواطنين يجب أن يشاركوا بنشاط في الحياة السياسية إذا أرادوا السعادة والفضيلة، وتحليله للأسباب التي تؤدي إلى الثورة أو تكبحها داخل المجتمعات السياسية، من الأمور التي تُعد مصدر إلهام لكثير من المنظرين المعاصرين، خاصة أولئك غير الراضين عن الفلسفة السياسية الليبرالية المهيمنة، التي عززها مفكرون من قبيل جون لوك وجون ستيوارت ميل.
ترجم "السياسة" من الإغريقية إلى الفرنسية وصدَّره بمقدمة طويلة في علم السياسة (90 صفحة) وعلَّق عليه وشرحه بارتلمي سانتهيلير، أستاذ الفلسفة الإغريقية في "كوليج دو فرانس" ثم وزير الخارجية الفرنسية. يضمُّ هذا العمل العريق ثمانية كتب (نُطلق عليها بالتعبير المعاصر "فصول") مقسَّمة إلى أبواب. يناقش الكتاب الأول المجتمع السياسي والرق والملكية والعائلة، ويعد مفهوم المدينة (بوليس Polis) الأرسطي، كما ورد في هذا الكتاب، من أكثر المفاهيم التي يتم العودة إليها في نقاشات الفلسفة السياسية.
الكتاب الثاني يشتغل على نقد النظريات السابقة على أرسطو، خصوصًا جمهورية أفلاطون، كما يحلل ثلاثة أنظمة سياسية، هي: الإسبرطي والكريتي والقرطاجي. ويناقش أنماط الدساتير، وهي عنده ثلاثة: الملوكية والأرستقراطية والجمهورية. يجادل الكتاب الثالث مفاهيم المواطن والحُكم والسيادة وأنماط المَلكيَّات، وإجابة أرسطو عن سؤال "من هو المواطن؟"، كما فصَّلها هنا، محل عناية كبيرة سواء في الدراسات السياسية أو القانونية.
يقدِّم أرسطو في "السياسة" شرحًا لطرق عمل الأنظمة الديمقراطية والأولغارشية وبنيتها ومفاصلها
الكتاب الرابع، النظرية العامة للجمهورية الفاضلة، وفيه يقول: "كل استبداد فهو غير مشروع إلا حين يكون السيد والمسود هما ما هما بمقتضى القانون الطبيعي، وإذا كان هذا المبدأ حقًا فلا ينبغي للمرء أن يبغي السيادة إلا على خلق قدر عليهم نير سيد لا على جميع الناس من غير تمييز"، مناقشًا القانون والحرب والفتح.
اقرأ/ي أيضًا: عبد الله محمود عدوي.. توابل البرامج التلفزيونية
أما الكتاب الخامس فيتعاطى مع التربية في المدينة الفاضلة والآراء الواردة فيها وأهميتها وموضوعاتها (الآداب والرياضة البدنية والموسيقى والرسم)، ويولي عناية كبيرة بالموسيقى متاسائلًا: "أليس الأولى أن تكون الموسيقى إحدى الوسائل للوصول إلى الفضيلة؟".
وفي الكتاب السادس، يشرح أرسطو أنماط الديمقراطيات والأولغارشيات، والسلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية. يقول: "في الحق الأحكم أن يقال تكون الديمقراطية حينما تكون السلطة مسندة إلى جميع الرجال أحرار، وأولغارشية حينما يختص بها الأغنياء".
يقدِّم أرسطو في الكتاب السابع شرحًا لطرق عمل الأنظمة الديمقراطية والأولغارشية وبنيتها ومفاصلها والمبادئ التي تقوم عليها، ويفصِّل في تحليل أجهزتها. وفي الفصل الثامن والأخير يشرِّح الثورة وتداعياتها، ويعود أيضًا لنقد مفهوم الثورة عند أفلاطون. يقول: "إذا لم يحصل الناس في أمر السلطة السياسية على كل ما يظنون باطلًا أنهم إياه مستحقون فزعوا إلى ثورة وفي الحق أن من لهم الحق في الثورة على وجه مشروع هم المواطنون ذوو الأهلية السامية وإن كان هؤلاء لا يستخدمون البتة هذا الحق [...] تلك هي العلة العامة بل يمكن أن يقال إنها ينبوع الثورات والاضطرابات". ثم يقول: "ومهما يكن من شيء فالديمقراطية أشد استقرارًا وأقل عرضة للانقلابات من الأولغراشية".
من الجدير بالذكر الإشارة إلى أن كتابات أرسطو، شأنها شأن كتابات الفلاسفة والمنظرين القدامى، عادة ما تُنشر كـ"أعمال كاملة" أو "أعمال مختارة" -بجانب نشر بعضها بشكل مستقل- في أغلب اللغات، نظرًا لطبيعتها المرجعية، وهو ما تحتاجه المكتبة العربية بقوة.
اقرأ/ي أيضًا: