لماذا نُتيَّم بكتب من قبيل "هكذا تكلم زرادشت" لفريدريش نيتشه (1883-1891)، أو "تاريخ ويوتوبيا" لإميل سيوران (1960)؟ إنّ أجوبة عدّة قمينة بأن تشفي غَليل سؤالنا. قد يرتبط الأمر بتوجّهاتنا المذهبية، فنُحب نيتشه نظرًا لأننا نرى فيه مُعلّمًا وجوديًا، كما فعل كارل ياسبرز، أو نُحب سيوران لأنه قادرٌ، بشكل عزيز الوجود، على صياغة ما نحتضن بداخلنا من طاقات كراهية نحو العالم، أي لدى كليهما المقدرة على تمثُّل أو تقمّص قناعاتنا من خلال نصوص لا ينفك فيها الكوميدي عن الرومانسي والتهكمي عن التراجيدي. وقد يرتبط الأمر أيضًا بنظرة مُتعيّة رجوعًا لما تضفيه علينا هذه الكتابات من نشوة وحبور وانفعال.
قد يرتبط الأمر بتوجّهاتنا المذهبية، فنُحب نيتشه نظرًا لأننا نرى فيه مُعلّمًا وجوديًا، كما فعل كارل ياسبرز
لكن هل يكون الحسد (بالمعنى العامي الرائج المتعلق بتمنّي ما عند الغير، وليس بالمعنى النيتشوي) أحد منابت إقبالنا أو وَجْدنا بهذه النصوص؟ يقول سيغموند فرويد، في كتابه الأخير "موسى والتوحيد" (1939)، "بأي عين حاسدة ننظر، نحن معشر ضعاف الإيمان، إلى أولئك الذين يعمر أفئدتهم اليقين بوجود كائن أعلى! [...] فهم يميزون على الفور ما هو نبيل ورفيع مما هو سافل ومنحط، ويتم تقييم حياتهم العاطفية نفسها تبعًا للمسافة التي تفصلهم عن مثلهم الأعلى [...] ولكن بعض تجارب الحياة وبعض ملاحظاتنا عن الكون تحول حيلولة مطلقة، ويا للأسف، بيننا وبين القبول بفرضية ذلك الكائن الأعلى".
اقرأ/ي أيضًا: إنهم يتثاءَبون كثيرًا!
إنّ الحسد الأنطولوجي تجاه المؤمنين، أو بالأحرى المؤمنين جدًا (فهو لا يحسد المتألّهين)، الذي يعبِّر عنه فرويد، والذي يكرر التعبير عنه بصيغ شتّى في كتابيه الآخرين عن الدِّين، "مستقبل وهم" (1927) و"قلق في الحضار" (1929)، يمكن أن يستحيل إلى حسدٍ أدبيّ أو أُسلوبيّ عند نيتشه وسيوران.
هنا يثور السؤال حول أسلوب النصّ الدينيّ، وبالتحديد التوحيديّ منه، أي موضوع الحسد وموضع الاجترار الخلّاق عند هذين النبيّين العلمانيّين. يتميّز هذا الأسلوب، عمومًا، باعتماده على جوامع الكَلِم والتخييل والجمع بين المتضادّات والميل إلى تشخيص المخاوف والشهوات. وهي المميزات أو القوالب التي لا يني نيتشه وسيوران - بالرغم من الاختلاف بل التباين الموجود بين رؤيتيهما، والردود الفظّة لسيوران على كل من يخلط بينه وبين نيتشه وقناعته بأنه يعبِّر عن مرحلة متقدّمة جدًا عليه -يعملان على إعادة إنتاجها وتدويرها.
فأسلوب نيتشه، وهو الذي جعل من الإفراط في الأسلوبية أسلوبًا كما يعلّق الشرّاح، وشذرات سيوران، يعيدان إنتاج القالب المقدّس أو توظيفه ضدّ مقصده الأوّل. يلخّص جميل حمداوي هذه القوالب فيقول: "تستند الكتابة الشذرية أو الكتابة المقطعية، أو أسلوب النبذة كما عند نيتشه، إلى الاقتضاب، والتكثيف، والتبئير، والتركيز، والإرصاد، والنفور من التحليل العقلاني المنطقي، وتفادي الكتابة النسقية"، وهو ما يشبه إلى حدٍ كبير أسلوب النصّ التوحيدي. كما يصف عبد السلام بنعبد العالي الكتابة الشذرية بأنها تأتي "مقابل الانسجام الذي يشدّ أجزاء الخطاب ويجعلها تتساكن جنبًا إلى جنب.
اقرأ/ي أيضًا: الجسد الشرقي في منفاه الثاني
تقيم الشذرات "نصًا" متوّترًا بلّوريًا، وتسعى لأن تلخّص كثافة العالم في "نصّ" متصدّع، وتقحم اللانهائي في فضاء محدود، والتناقض في الاستدلال المنطقي، والبرادوكسا في الدوكسا". ويمكنني أن أضيف أنها، عند نيتشه وسيوران، نوع من الآيات العلمانية أو الإلحادية.
تستند الكتابة الشذرية أو الكتابة المقطعية، أو أسلوب النبذة كما عند نيتشه، إلى الاقتضاب، والتكثيف، والتبئير، والتركيز، والإرصاد
لكن الأمر لا يقتصر على الرؤية الشكليّة، أو اقتناص ما في اللغة من إِغراب لغوي، بل يمتد إلى مضمون النصّ نفسه، إذ يحضر الله والمسيح وبولس في نصوص نيتشه، باعتبارهما "شخصيات مفهومية" على حد قول جيل دولوز، كما يحضر القصص الديني وأقوال الرسل في شذرات سيوران. وما يتم تدميره عندهما على الصعيد الأنطولوجي، لا يأبى إلا أن يحضر بقوة في عمليات السرد والحكي بحيث يصير جزءًا عموديًا من "النصّ"، بل أن يستحوذ على عنوانه كما في "المسيح مضادًّا".
كان السؤال: هل نقرأ هذه الكتب أو نتيّم بها بدافع الحسد، أي حسد المسيحي على كتابه المقدّس والمسلم على قرآنه؟ سوف يمثّل الجواب بنعم عزاءً وغبطة كبيرين لفرويد على إلحاده، فما لم يتمكّن "ضعاف الإيمان" من مجاراته أنطولوجيًا سيكون بأيديهم اللحاق به أدبيًا!
اقرأ/ي أيضًا:
علم النفس.. تأسيس إسلامي
طرابيشي في عباءة سلفية