سارت البرازيل بخطى ثابتة نحو حلمها بالتتويج بطلة للعالم لأول مرة في تاريخها، حيث عجزت المنتخبات التي واجهتها كافة بتسجيل أي هدف في مرماها في دور المجموعات ودور ربع النهائي، قبل أن تفك فرنسا شيفرة السامبا الدفاعية في نصف النهائي، فيما واصلت السويد مغامرتها في البطولة التي تستضيفها، ووصلت إلى المباراة النهائيّة راضية بإنجازها الحالي، وطامحة بالطبع لأن تكرر ما فعلته الأوروغواي في النسخة الأولى 1930، وإيطاليا بالنسخة الثانية 1934 عندما استضافتا البطولة وأحرزتا اللقب.
مدافع السويد : بعد الهدف الخامس لم أعد أرغب في مراقبة بيليه.. كنت أريد أن أحييه
عانى الشعب البرازيلي في أواسط القرن الماضي من انتشار الفقر والبطالة، فكان بحاجة ماسّة إلى بارقة أمل تنتشله من كل ذلك، فكانت قرة القدم التي زادت شعبيّتها خلال تحضيرات البلاد لاستضافة النسخة الرابعة من كأس العالم 1950، لكنّ ضياع اللقب فيما بات يسمّى بكارثة الماراكانازو زاد العبء على البرازيليين الذين وجدوا في كرة القدم متنفّساً حقيقياً، فهم يجدون بها الماء والهواء، وخسارة أي بطولة ستعني كارثة وطنيّة.
ومع قدوم الرئيس البرازيلي الجديد جوسيلينو كوبيتشيك وعد هذا الرجل شعبه بتحسين مستوى دخل الأفراد ومحاربة الفقر، فكان من أبرز مشروعاته بناء العاصمة الفيدرالية "برازيليا"، وتحسين البنى التحتية للبلاد، وكما يحظى الجانب الاقتصادي بأهمية عظمى للشعوب، تستحوذ كرة القدم على حيّز ثابت في قلوب البرازيليين، فلا يوجد تطوّر بالبلاد إلا إن أحرزت البرازيل كأس العالم وأثبتت للكرة الأرضيّة أنّها أمّ كرة القدم.
لذلك أعدّ المدرب فيسنتي فيولّا العدّة جيّداً قبل أن يصل فريقه إلى السويد، حيث أجرى تدريبات مكثّفة لمدة 3 أشهر متواصلة، قبل أن يجول ولاعبيه في أوروبا ويجري لقاءات هامّة تحضيراً للمونديال، و لم تقتصر بعثته على اللاعبين والإداريين والكادر التدريبي، فحوت على طبيب نفسي يساهم بإحياء الروح المعنوية التي قُتلت في واقعة الماراكانا.
وقبل بداية البطولة كانت قائمة المنتخبات الـ4 المرشحة لنيل اللقب تخلو من اسم البرازيل، ومع بدايتها استمر النظر إلى البرازيليين على أنهم فريق قوي، لكنه ليس بالفريق الذي يستطيع أن يظفر بكأس العالم، لكنّ هذه النظرة تغيّرت إلى الأبد في أول 5 دقائق من لقاء الجولة الثالثة في دور المجموعات أمام الاتحاد السوفييتي حين نزل بيليه وغارينشا أرض الملعب وتلاعبا بدفاعات الخصم، ومنذ تلك اللحظة باتت البرازيل هي المرشّح الدائم لبطولات كأس العالم كافّة.
عندما كان بيليه طفلاً شاهد والده يبكي بحرقة بسبب خسارة البرازيل كأس العالم وقال له : لا تبكي يا أبي سأفوز بكأس العالم من أجلك
وكان بيليه قبل ذلك 8 أعوام وتحديداً في أمسية الماراكانازو عام 1950 يلعب مع أصدقائه في الأزقّة وعمره لا يتعدّى 9 سنوات، وشعر وأصدقاؤه بصمت غريب في الحي، وعاد إلى المنزل ليتفحّص ما يجري، ليتفاجَأ بمشهد لم يألفه في حياته، إذ وجد والده يبكي بحرقة، فسأله" لماذا تبكي يا أبي؟" فأجابه والده "لقد خسرت البرازيل كأس العالم"، رد الطفل بيليه ببراءة، "لا تبكي يا أبي سأفوز بكأس العالم من أجلك"، لقد حانت اللحظة إذن..
كان بيليه أصغر لاعب في كأس العالم بعمر 17 عاماً و 249 يوماً وهو رقم قياسي لم يحطّم حتى اللحظة، وعندما خاض المباراة النهائية مع السويد كان هنالك لاعباً في الفريق الخصم يكبره بـ20 عاماً.
على الجانب الآخر دخلت السويد المباراة النهائيّة وهي راضيّة عمّا حققته حتى الآن، إذ لم تكن الآمال معلّقة بشكل كبير على المنتخب الذي حقق حتى اللحظة أكثر مما هو مطلوب منه، حيث حزم بعض اللاعبين حقائبهم قبل لقاء الاتحاد السوفييتي في ربع النهائي من أجل عودتهم إلى أنديتهم في الخارج التي يلعبون فيها كمحترفين، فظنّوا أن السوفييت سيطردونهم من البطولة قبل أن يتغلّبوا عليهم 2-0.
رئيس البرازيل: صحيح أننا لا نملك الخبز ولا الأرز.. ولكننا نملك بيليه وكأس العالم
وعلى ملعب سولنا رازوندا وبحضور أكثر من 50 ألف متفرّج بدأت المباراة النهائيّة لكأس العالم، حيث بادر النجم السويدي ليدهولم بتسجيل أول أهداف اللقاء في الدقيقة الرابعة، حينها ذهب اللاعب البرازيلي ديدي صاحب الـ30 عاماً إلى المرمى ووضع الكرة في إبطه وأمر زملاءه بالهدوء، لأن لديهم القدرة على التفوّق في المباراة.
كان تصرّف ديدي بالغ الأهمّية في نفوس اللاعبين البرازيليين الذين تذكّروا في أجزاء من الثانية عقدة النقص التي عانى فريقهم منها، والمتجلّية بعدم التتويج بكأس العالم، وهنا ردّ البرازيليون بهدفين لفافا انتهى بهما الشوط الأول بنتيجة 1-2، ومع مرور 10 دقائق على بداية الشوط الثاني استطاع الفتى المراهق الأسمر أن يرفع الكرة من فوق رأس المدافع السويدي ويسددها بطريقة رائعة مسجلاً أحد أجمل الأهداف بتاريخ كرة القدم، والذي ما زال الكثيرون يتحدثون عنه، فجعل بيليه النتيجة 3-1، وأضاف زاجالو هدفاً رابعاً قبل أن تقلّص السويد النتيجة بهدف في الدقيقة 80، لكن بيليه وضع قُبلة خامسة في مرمى السويد معلناً البرازيل بطلة للعالم لأول مرة في تاريخها، ومحققاً وعده الذي قطعه على والده عندما كان طفلاً وقال له "لا تبكي يا أبي سأفوز بكأس العالم من أجلك"، يقول المدافع السويدي سيجي بارلينغ والذي أوكلت إليه مهمّة مراقبة بيليه " بعد الهدف الخامس لم أعد أرغب في مراقبة بيليه.. كنت أريد أن أحييه".
لم يحدث في تاريخ نهائيات كأس العالم أن خرج الفريقان الخاسر والمنتصر فرحين بعد إطلاق صافرة النهاية كما حصل بين السويد والبرازيل، ففرحت الجماهير السويدية وحيّت فريقها والفريق البرازيلي، وابتهج الحضور بمشاهدة بيليه وزملاءه يحصدون أرض الملعب، رفعت البرازيل كأس العالم وعادت إلى موطنها وكان باستقبالها الرئيس البرازيلي الذي قال جملته الشهيرة،" صحيح أننا لا نملك الخبز ولا الأرز.. ولكننا نملك بيليه وكأس العالم". لتعلن البرازيل بدءاً من هذه المباراة سيادتها على كرة القدم في العالم، فكرة القدم قبل 1958 غير الذي بعدها، ورغم ذلك حفلت النسخة السادسة من كأس العالم بالعديد من اللقطات المميزة والحقائق الهامة التي لم تتكرر، فما هي تلك العلامات الفارقة التي تميّزت بها البطولة؟
تابعونا في الجزء القادم والأخير من قصة كأس العالم 1958..