نشرت جريدة "الإيكونوميست" الاقتصادية تحليلًا تشرح فيه آثار قوة الدولار العالمية المتزايدة، وتأثير قوة تلك العملة على العالم وعلى الولايات المتحدة نفسها، وكيف يمكن لدولار أكثر قوة أن يجعل الاقتصاد العالمي أكثر ضعفًا. التالي هو ترجمة المقال بتصرف
في الثلاثة أسابيع التي تلت فوز ترامب في الانتخابات الأمريكية، سجل الدولار واحدة من أشد ارتفاعاته حدة أمام بقية العملات القوية
__
أهم عملة في العالم تستعرض عضلاتها. في الثلاثة أسابيع التي تلت فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، سجل الدولار واحدة من أشد ارتفاعاته حدة أمام سلة من أقرانه من العملات في الدول الغنية. فهو الآن أعلى بنسبة 40% منذ أدنى مستوى له عام 2011. وقد عزز هذا الصعود أيضًا أسواق العملات الناشئة. أما اليوان الصيني فقد سجل أدنى مستوى له مقابل الدولار منذ عام 2008 المسئولون الصينيون الرسميون عبروا عن قلقهم مشيرين إلى اتخاذهم إجراءات تتمثل في تسديد القيود على عمليات الاستحواذ على العملات الأجنبية من قبل الشركات المحلية للحد من هبوط العملة.
اقرأ/ي أيضًا: لماذا لن يحل تعويم الجنيه الأزمة في مصر؟
الهند، التي تعاني من مشاكل من صنع يديها، شهدت عملتها هي الأخرى هبوطًا لا مثيل له أمام العملة الخضراء. كما شهدت العملات الآسيوية الأخرى هبوطا غير مسبوق منذ الأزمة المالية التي كانت عام 1997-1998.
كان الدولار يكتسب تدريجيًا، وبمرور الوقت، مزيدًا من القوة، ولكن التغير المفاجئ الذي حدث في الآونة الأخير هو معامل تغير كبير في المزيج السياسي والاقتصادي في أمريكا. راهن مستثمرون لهم ثقل في السوق الأمريكية على أن ترامب سيخفض الضرائب ويصرف مزيدًا من الأموال لإصلاح البنية التحتية المتهالكة لأمريكا. ومن شأن دفعة مالية كبيرة أن تجعل مجلس الاحتياط الفيدرالي يرفع سعر الفائدة بمعدل أعلى من التضخم. أما العائد على السندات الأمريكية فقد ارتفع من 1.7% إلى 2.3% ليلة الانتخابات، لذا فإن زيادة الغلة تعد نقطة جذب لرؤوس الأموال.
إن نموًا متزايدًا لأحد أكبر الاقتصاديات في العالم أمر مرحب به.لكن في فترة أخرى شبيهة وهي الفترة الأولى في رئاسة رونالد ريجان حيث اتساع عجز الموازنة، وارتفاع أسعار الفائدة، وارتفاع سعر الدولار العالمي. تسبب ذلك بمشاكل خارج الولايات المتحدة، وبجعل الوضع أكثر تعقيدًا. وعلى الرغم من أن الاقتصاد الأمريكي بات يشكل جزءًا أقل من الاقتصاد العالمي إلا أن الأسواق المالية والائتمانية انفجرت، وأصبح الدولار يلعب دورًا أكثر محورية من ذي قبل. وهذا ما يجعل الدولار أكثر خطورة بالنسبة للعالم وبالنسبة لأمريكا.
كان نفوذ أمريكا النسبي باعتبارها قوة تجارية في تراجع مستمر: انخفض عدد البلدان التي تعد من كبريات أسواق الصادرات الأمريكية من 44 دولة عام 1994 إلى 32 بعد عقدين من الزمن. ولكن تفوق الدولار باعتباره وسيلة للتبادل ومتضمنًا للقيمة لا تزال تضعه في الصدارة دون منازع. بعض جوانب قوة الدولار ظاهرة للعيان فبحسب أحد التقديرات في عام 2014 بحكم الواقع فإن منطقة الدولار، التي تضم أمريكا والبلدان التي تتحرك في خط متوازٍ مع الدولار، شملت 60٪ من سكان العالم و60٪ من الناتج المحلي الإجمالي لهذه الدول.
اقرأ/ي أيضًا: تعويم الجنيه المصري.. خلفيات ونتائج القرار
هناك عناصر أخرى لقوة الدولار التجارية أقل وضوحًا، منها مثلًا مقدار التمويل بعملة الدولار خارج حدوده الذي ارتفع كثيرًا في السنوات الأخيرة. ومع النمو المضطرد للأسواق الناشئة الآخذة وازدياد جوعها للتمويل بالدولار، ومنذ الأزمة المالية في الولايات المتحدة الأمريكية، التي أدت إلى انخفاض أسعار الفائدة وصناديق التقاعد تبحث عن عوائد لائقة في مكان آخر. فقد هرعوا لشراء السندات الدولارية من أماكن غير متوقعة مثل موزمبيق وزامبيا وأخيرًا تلك الصادرة عن شركات الأسواق الناشئة. هذه الشركات الناشئة كانت سعيدة جدًا لأنها ستقترض بالدولار بأسعار أقل من السائد في السوق المحلية، في العام الماضي بلغت هذه الديون 10 تريليون دولار، ثلثها في الأسواق الناشئة وفقًا لبنك التسوت الدولية.
كلما كانت العملة الخضراء قوية كلما ارتفعت ديون المقترضين، وتضاءلت عملات محلية أمامه كما هو الحال في تشيلي، وتركيا والبرازيل
عندما ترتفع الديون، ترتفع بالتبعية تكلفة خدمة هذه الديون، ولكن الألم الناجم عن ارتفاع أسعار الدولار يتخطى المتعاملين به إلى مقترضيه بطبيعة الحال، ذلك لأن الإقراض الميسر الرخيص بتلك العملة يتسبب في زيادة المعروض من الائتمان المحلي. تدفق رؤوس الأموال أيضًا يرفع سعر الأصول المحلية ويشجع على مزيد من الاقتراض، وبالنسبة للشركات الناشئة، فإن حقيقة الأمر أنه ليس كل دولار تم اقتراضه استُخدم في الاستثمار، بعض هذه الأموال انتهى بها الحال في حسابات بنكية وبعضها استُخدمت لتمويل شركات أخرى.
تقوية الدولار كعملة للتداول ترسل القوة غالبًا في الاتجاه المعاكس، فكلما كانت العملة الخضراء قوية كلما ارتفعت ديون المقترضين، وتضاءلت عملات محلية أمامه كما هو الحال في تشيلي، وتركيا والبرازيل.
هناك مخاطر أيضًا في ارتفاع الدولار بالنسبة لأمريكا ذاتها، فالعجز التجاري سيتسع كلما ضغطت الصادرات على العملة القوية وامتصت الواردات، في عهد ريجان على سبيل المثال، أثار ارتفاع العجز نزعة الحمائية (و هي سياسة متبعة لتقليص التعامل التجاري بين الدول). لكن هذه المرة يبدأ العجز من أمريكا، وهو أمر قد تم استغلاله سياسيًا، ليس فقط بانتخاب ترامب الذي يرى أنه يمكن التلاعب بقواعد التجارة العالمية لصالح بلدان بعينها، فكلما زاد العجز، زادت تهديدات ترامب في فرض ضرائب جمركية مرتفعة على السلع الواردة من المكسيك والصين في محاولة لجلب التوازن إلى التجارة، تلك الغرائز "الحمائية" لترامب ستجلب الخراب للجميع، حيث بدأ كثيرون يتجنبون التعامل بالعملة الخضراء ويتجهون إلى اليوان واليورو وهي عملات لديها أيضًا مشكلات عميقة الجذور وغير مستقرة.
إذا بقي الدولار قويًا، فهل يمكن نزع فتيل "النزعة الحمائية عن طريق تنسيق الجهود؟ هناك أحاديث متداولة مؤخرًا عن اتفاق جديد يكون خصمًا لاتفاق بلازا، وهو اتفاق تم عام 1985 بين الولايات المتحدة وبريطانيا واليابان وفرنسا وألمانيا الغربية يقضي بدفع الدولار للانخفاض مرة أخرى، لكن تلك الأحاديث تبدو في غير محلها.
اليابان وأوروبا تحاربان من أجل خفض معدلات التضخم ولا تحرصان على تأمين رصيدهما من العملات الأقوى. ارتفاع أسواق الأسهم في الولايات المتحدة تدل على أنها ستنمو أكثر، ويظل الاقتصاد العالمي ضعيفًا بينما تتمدد عضلات الدولار المتعجرف.
اقرأ/ي أيضًا: