على مدار التاريخ، لم تَعش البشريّة ما أنتجته، نظريّاً، باسم اليوتوبيا (وسأتجوّز بنقلها بـ"المدينة الفاضلة"). كانت البشريّة دائماً ترغبُ في تلك اليوتوبيا، لكن حال بينهما أشياء كثيرة: ليس أوّلها القساوسة الذين فرضوا نمطًا معياريًا وأخلاقويًّا لتلك المدينة الفاضلة، والفلاسفة الذين أقصوا العبيدَ والنساء والرجل غير مكتمل الرجولة (!)، وليس انتهاء باختراع حديث سيكون ماركس نبيّه الأحدث ألا وهو الأيديولوجيا. فالأيديولوجيا، كما في الاستعمال الماركسيّ الأول، هي العماء، والزيف، وتزييف الحقيقة. هناك تعارض معياريّ بين الأيديولوجيا واليوتوبيا ظُنّ، وتمّت إقامته كثيرًا، لكنّنا لاحقًا، مع خراب البشريّة المتقدّم، والحروب التي فتّته باسم هذه اليوتوبيا، المتجسدة في أشكال قومويّة لاحقة، في ألمانيا نموذجًا، ومع مجيء فلاسفة مهمّين كبول ريكور، سندرك أنّ الأيديولوجيا تحتوي على اليوتوبيا ذاتها، وأنّ "التخييليّ" هو جزءٌ من السياسيّ، في افتراض مدينة فاضلة.
بسبب اللغة الكولونياليّة للحداثة والمتمركزة أوروبيًّا سيغدو من يرفض السعي الكونيّ للمدينة الفاضلة مارقًا
ليست ههنا المشكلة، وما هذا بجديدٍ، على أيّة حال. الفكرة التي أودّ طرحها هي ما كانت البشريّة تسعى إليه، لكنّها ما بعد حداثيًّا، علمت بمغبّات ذلك السعي الضالّ، وبأنّه سيؤول إلى استيهام (فنتازيا) في أحسن الأحوال، أو إلى انتحارٍ معياريّ جماعيّ في أبأسه.
الديسيوتوبيا الليبراليّة
أسقطت ما بعد الحداثة، السرديّة سقوطًا مدويًّا، لا سيّما وأنّنا عندما نقول "سعي البشريّة" فنقصدُ شعوبًا، لا البشريّة، ولكن بسبب اللغة الكولونياليّة للحداثة والمتمركزة أوروبيًّا سيغدو من يرفض هذا السعي الكونيّ والبشريّ لتلك المدينة مارقًا. المارقون، تحديداً، كانوا اليهود ذات مرّة، أو العرب والمسلمين، أو السّود، إلخ.
اقرأ/ي أيضًا: المانيفستو في ضيافة القرن 21
في ظلّ التهالك المعياريّ لأيّ سرديّة حداثيّة، ورغم كلّ اداعاءات هابرماس لـ"إصلاح" الحداثة وترشيدها، ورغم جلّ إسفافات كارل بوبر -والاثنان عدوّان-، إلّا أنّ هناك شيئًا ما واحدًا قدرت الليبراليّة على إغراء النّاس به: هو إقامة هذه اليوتوبيا، ولو كان السبيل في ذلك تدمير العالم. بلغةٍ أخرى، كان علينا تدمير العالم من أجل إنقاذه.
هذا هو بالتحديد الطوفان الليبراليّ الثمانينيّ وما بعد الثمانينيّ في شكله الأكثر جِدّة؛ النيوليبراليّة. قدرت هذه الأيديولوجيا، كما وضّح العلّامة ديفيد هارفي، صحبةَ رجال العمل المهدّدين، بخلق أيديولوجيا صمّاء، أو نوعاً مما سمّاه سلافوي جيجك استهزاءً "شيوعيّة ليبراليّة". فهي تقنعك بأنّك وأنت ترتشف قهوة ستاربكس مثلاً ستكون مساهمًا في دفع زكاة علمانيّة إنسانويّة لأطفال جنوب أفريقيا، التي ادّعت الشركة أن جزءًا من مُدخلها يذهب إليهم.
لكن، بعد تجربة ثلاثة عقود، من لبرلة دؤوبة، ولا تكلّ، ومن محاولة لَبْرلة العالم برمّته، وإجباره على اللبرلة بقوّة إمبرياليّة هي صندوق النّقد، والبنك الدوليّ، كان ما حصل تحديدًا هو أنّنا نعيش، عالميًا، ما يمكن تسميّته بخطّ عريض ديستوبيا ليبرالية.
كانت الليبراليّة المارد الذي سرق شبح ماركس الذي قال عنه ذات مرّة إنّه "يخيّم على أوروبا"، لنعيش هذا الكابوس الجماعيّ الكونيّ، اقتصاديًّا، ورمزيًّا. لا يليق بهذه الديسيوتوبيا الليبراليّة إلّا ما نعيشه: تجنيس تامّ للعالم كأنّه واحد، ولا شيء يختلف عن الآخر. وكأنّها قهوة ستاربكس، التي لن تختلف طعمها، بل إنّ أرفف المقهى وما تحتويه، لن تختلف من مكان إلى آخر؛ حتى ولو أقمت في كلكتا، أو في منهاتن.
العالم العربيّ والسرديّة الليبراليّة: الكابوس الدائم
وفيما هو متّصل بما مضى طرحه، فإنّ هناك فكرة أشار إليها إيمانويل فالرشتاين على نحو سريع، وهو أنّ العالم بعد هزيمة الاتحاد السوفياتيّ وانتصار النموذج الليبراليّ، ثمّ تطوره لاحقاً إلى نسخة نيوليبراليّة، ضعفت فيه الحركات الوطنيّة المناهضة للإمبرياليّة في الجنوب العالميّ، وضعفت أيضًا المجتمعات المحليّة، لصالح النّسخة الكونيّة المتبنّاة أمريكيًّا. طبعًا، يخوض فالرشتاين في كتابه الماتع والجميل، الذي يجمع بين التاريخ والنّظريّة، بعنوان "نهاية التاريخ كما نعرفه"، تفاصيل هذا التشكل للاتحاد السوفياتيّ منذ حرب 1917، والنزعات الإمبراطوريّة التي تشكّلت، إضافةً إلى أنّه وضّح فعلًا أدوار لينين الصحيحة والخاطئة برأيه في إدارة المعركة.
لكن، رغم الإشارات العابرة، ما استوقفني هو التفكير فعلًا في خفوت ليس الحركات الوطنيّة المناهضة للإمبرياليّة فحسب، بل أيضاً خفوت مفهوم "الوطني" فضلًا عن الحركات الوطنيّة، وتحويل النموذج الليبراليّ المتبنى أمريكيًّا بخصوص المجتمعات الأهلانيّة المدنيّة إلى شبكات منظمات غير حكوميّة برعاية وتمويل غربيين. وبالطبع فإنّني لا أعلل ذلك بسقوط الاتحاد السوفياتيّ (الذي دعمَ في بداياته الحركات في الجنوب بالفعل، وأقام مؤتمرات للشعوب المناهضة للإمبرياليّة، حيث كان يؤمن أنّ هؤلاء -ملح الأرض- هم من يمكن البناء عليهم في تكوين قوّة كبرى ضد الإمبراطوريّة حينها). لكن اللافت أنّ العالم نفسه شهد تهدئة من حيث إحكام السيطرة بطرق أكثر ميكروفيزيائيّة، سواء على سلطة التحكم المباشر، أو على المحاولات الدائمة لتشظية السيادة في دول الجنوب بإدامة حالات الاضطراب والنزاع، مع وجود حكومة مركزيّة ضعيفة جدًا يمكن التلاعب بها في أيّ وقت.
ساهمت الإمبرياليّة البريطانيّة تحديدًا وموّلت ودعمت إسقاط نسخةٍ مثل الناصرية في العالم العربيّ
هذا، وقد عرف الجنوب العالميّ حركات قويّة من المجتمعات الأهلانيّة المدنيّة. وبعيدًا عن المفهوم الأوروبيّ للمجتمع المدنيّ، فإنّنا عندما ندرسُه مثلاً في حالات جنوب أفريقيّة لا يغدو ذا معنى كما يشير البحّاثة الكبير محمود ممداني. فممداني يقول إنّ مَن يُسمّوا بالمستفرقين (أي جماعة الدراسين وثلّة الباحثين المختصين بأفريقيا) عندما يأخذون هذا المفهوم -المجتمع المدنيّ- ويطبقونه على حالات جنوب أفريقيّة، فهم إنّما يخطئون مرّتين. مرّة، في افتراض حداثة كائنة واحدة في جميع البلدان، ومرّة في إطراد المفاهيم الأوروبيّة باعتبارها ذات أصل نموذجيّ برايغميّ ولها انعكاسات في الجنوب.
اقرأ/ي أيضًا: "الطبقات والتراصف الطبقي" بحسب روزماري كرومبتون
ورغم الفشل الذاتيّ للدولة الوطنيّة في العالم العربيّ مصحوبًا بالنكاية الإمبرياليّة بها، مثل مشروع الناصريّة الذي رغم كلّ عِلله البنيويّة، ساهمت الإمبرياليّة البريطانيّة تحديدًا وموّلت ودعمت إسقاط نسخةٍ مثله في العالم العربيّ، ولا سيّما مصر، وكان لا بدّ من تصعيد "يمين الضباط الأحرار"، أي السادات الذي ترافق مع مجيئه تغيير في الهيكلة الاقتصاديّة، ثمّ استمر مبارك على النهح ذاته، فكان ما حصل بعد الناصريّة -رغم كلّ عللها البنيويّة والتي لا يمكن غضّ الطرف عنها في فشلها- هو إجهاض كلّ ما حاول عبد الناصر أن يفعله.
بغياب مشروع وطنيّ، ومجتمع مدنيّ حقيقيّ أهلانيّ، عاشَ الجنوب العالميّ حالة تشظي المجتمع المدني، والسيطرة عليه من قبل الدولة، بالإضافة إلى ركاكة الدولة الوطنيّة نفسها التي لم تعد تقّدم لمواطنيها سوى الموت الاقتصاديّ رمزيًا، أو الحقيقيّ سجنًا وتعذيبًا.
على الصعيدين العالميّ والمحليّ، تكون الليبراليّة هي من سرقت "أشباح ماركس" بتعبير جاك دريدا
المشكلة أنّنا كعرب مذّاك الوقت لم نكوّن تاريخًا خاصّاً لنضالنا ضدّ هذه الدول، وضدّ الإمبرياليّة. كان الربيعُ العربيّ محاولة، فشلت أو نجحت ليس هذا هو المهم، لكن الذي كشفه الربيع العربيّ بعد كلّ هذه المآسي أنّ قيام ثورة على شعارات مجرّدة كالديمقراطيّة والحريّة هو أمر لا يعني شيئًا، فلم يعد هناك خصوصيّة لثورة. هذه المطالب يمكن أن تسمعها من ليبيا لوول ستريت. حتى العالم أصبح متجانسًا في مطالباته. وكأنّ ثوار التحرير هم الأمريكان في وول ستريت. الثورة السائلة هي أخطر ما بقي في الجنوب العالميّ من إرث ما بعد الحرب الباردة.
بهذا، على الصعيدين العالميّ والمحليّ، تكون الليبراليّة هي من سرقت "أشباح ماركس" بتعبير جاك دريدا، لنكون جميعًا في الكابوس. وبهذا، دُمِّر العالم باسم العالم.
اقرأ/ي أيضًا: