يبدو كتاب "منذر مصري وشركاه" أفضل شراكة في تاريخ الأدب السوري، بل ربما كانت الشراكة الأولى من نوعها في هذا التاريخ. فكتاب منذر عن أصدقائه الشعراء، حيث يرويهم بعباراتهم، ويصطادهم بكلماتهم ليعيد تسميتهم أو كتابتهم من خلالها، فيأتي بما يدهشهم. حال منذر في إعادة ترتيب وتركيب كلامهم كحال من يقرأ لوحة بنظرة يعجز عنها راسمها.
أن تكون ناقدًا منصفًا وسط غابة الشعراء، يعني أن تختار أكبر شجرة متخذًا شكل مصلوب
"منذر وشركاه" أيضًا ربما كان محاولة لإرضاء شعراء أرسلوا لشاعرنا كتبهم وشَعر أنه مدين لكل واحد منهم، فأهداه مجموعة شعرية بالكتابة عنها، لهذا كانت هذه الطريقة المبتكرة التي خرج بها منذر إرضاء لضميره الحي ولهؤلاء الشعراء، واختصارًا للجهد، وتحايلًا على الممكن. وهي طريقة جميلة مبدعة أن تذكر كل شاعر بأجمل ما كتبه هو، وليس بما تكتبه أنت عنه حتى لو كان جميلًا أو مرضيًا، أما أن تكون ناقدًا فهذا مدعاة لعداوة أعز الشعراء الأصدقاء، أو نفورهم أو زعلهم، وما أدراك أن تكون ناقدًا منصفًا وسط غابة الشعراء، إن هذا يعني أن تختار أكبر شجرة وسط الغابة وتلصق ظهرك إليها متخذًا شكل مصلوب، وتستعد كي يصلبك أصدقاؤك الشعراء جميعًا.
اقرأ/ي أيضًا: نحن أصدقاؤك يا رياض
هكذا احتال منذر علينا جميعًا بأن جعلنا شهودًا على ما كتبناه، ونقدنا بما كتبناه، فثبت ما هو جميل وتناسى ما تبقى. اختار الأجمل بضع كلمات وعبارات من صفحات متفرقات أعاد وصلها بحسه الشعري العالي المرهف كمقياس زلازل، وأخرج منها قصائد جديدة منسوجة بذوقه البارع، أما ما تبقى فليس بالضرورة أن يكون غير جميل مستحق الذكر.
لو أعاد منذر قراءة شركائه مرة أخرى فلربما أضاف إلى كتابه هذا ولربما حذف، فالقارئ حتى لو كان شاعرًا لماحًا ذكيًا صياد لآلئ حريصًا، سوف تشوب صيده مصاعب أولها الانتباه الدائم، وتوتر حاد يقتضيه فعل الصيد، وهذا لا يمكن أن يحسنه إنسان لوحده، ولو كان وحده المعني بهذه المغامرة المتعبة، ولاقتضاه الأمر إعادة غوصه مرة ثانية في تلك الكتب التي وصلته من شعراء وشاعرات سوريا "الجميلاتين" (اختزال جمع مذكر ومؤنث بكلمة واحدة).
من ناحية أخرى تتعلق بالمدى والزمن، أي بالأفق والعمق، تقتضي هذه الشراكة بما هي طامحة بالعدالة أو بالجمال، وباستمرار صيد الإبداع، إصدار كتاب ثان يغطي شعراء جميلين، بل جميلين جدًا، لم يصطد منذر من كرومهم ربما لأنه لم يقع على كتبهم، أو لأنهم لم يرسلوها له.
إحدى مآسي سوريا، في كل تاريخها، أن يتحول شعراؤها إلى سياسيين أو كتاب سياسة
هل يكفي أن نطالب منذر مصري بجمع وكتابة جزء ثان من الشعر السوري الجميل، لشعراء سوريين مبدعين لم يذكرهم في الجزء الأول؟ على الرغم من أن دار نشر "الغاوون" توقفت عن العمل، كما حدث مع مجلة "الغاوون" التي أسسها ورأسها الشاعر ماهر شرف الدين الذي تحول إلى السياسة بعد الثورة، كما صار منذر إلى الكتابة السياسية، أكثر حضورًا في الشهور الأخيرة رغم أن كتابته السياسية لا تقل جمالًا وإدهاشًا عن قصائده. إنها إحدى مآسي سوريا، في كل تاريخها، أن يتحول شعراؤها إلى سياسيين وكتاب سياسية بدلًا من أن يتحولوا إلى فلاسفة مثلًا، والشعر بطبيعة الحال أقرب إلى الفلسفة، المنطق يقول إن الإنسان يتحول من الشعر، إلى ماهو أعلى، أي إلى الحكمة أو الفلسفة، لكن ظروف سوريا خلال خمسة آلاف سنة كانت تسحب الشعراء والفلاسفة إلى السياسة تحسسًا عاليًا من هؤلاء لواجبهم الأخلاقي تجاه وطنهم وأمتهم.
اقرأ/ي أيضًا: طبقات شعراء البعث
لو كنت أحد مقرري جائزة كبرى، وكان مقررًا أن ينالها شاعر عربي هذا العام مثلًا، لاخترت منذر مصري لأسباب كثيرة، أولها أنه فتح بابًا جديدًا في الأدب والشعر اسمه إعادة كتابة الآخرين بحبر جديد خاص. وهو فن لا يوجد له مثيل في الأدب العربي على أقل تقدير، ولأنه ثانيًا بقي مخلصًا لقصيدة النثر حتى جعلها في سوريا تقضي على قصيدة التفعيلة، أو كادت، وثالثًا لأن لمنذر أثرًا ثقافيًا لا يغفل عنه أحد، وهو فنان متعدد المواهب والحرف، غير أن موهبته الأكبر هي في محبته للناس، ومحبة كل من يلتقي به ولو لمرة واحدة، له.
في ختام هذه الانطباعات عن منذر وشركاه، هأنذا أسائل منذر مصري من جديد: ألم يحن موعد الوفاء بوعدك بالمجموعتين المتبقيتين من منذر مصري وشركاه؟
اقرأ/ي أيضًا: