ينتمي الشاعر العراقي ناجي رحيم إلى جيل شعراء "ذبح الانتفاضة". من مواليد الناصرية عام 1965، بدأ الكتابة في منتصف الثمانينات، لينشر نصيّن فقط آنذاك ضمن مجلّتي "الطلبة" و"الطليعة الأدبيَّة". ينتمي ناجي رحيم بشعره إلى الجيل الذي هرب من الأسى، ليطمر حزنه في تراب الكتابة، غادر العراق عام 1991 متوجّهًا نحو صحراء السعودية مقيمًا في مخيمي الأرطاوية ورفحاء، اللذين وصفهما ذات مرة بالــ "البغيضين"، ليمضي فيهما سنواتٍ ثلاثًا متجهًا بعدها إلى هولندا، بداية عام 1994، ليقيم فيها حتّى الآن.
ناجي رحيم: أظن أنني لا أضيع، معي وجوه، معي مدن، مدن من ذكريات وأصحاب عمر أيضًا
يتّسم شعر ناجي رحيم بعناصر الفقد والغياب، يكتب كذلك الشجن الخاصّ به كرؤية باللغة الهولندية عبر تجربة واحدة لم تتكرّر، التمرّد كثيمةٍ من ثيمات الكتابة الجديدة، التي لا تعترف سوى بالحزن والخراب كمحرّض للكتابة، وفي الآن ذاته دعوةً للكفّ عن هذا الخراب!
اقرأ/ي أيضًا: ناجي رحيم.. لعبة أرشفة الخوف
في مجموعته الشعريَّة المعنونة "لست ممتعضًا من دفق السرد" (دار مخطوطات، هولندا عام 2016)، تغدو الكلمة شعرًا، ويغدو السردُ حاملًا لكل عناصر الشعريَّة، والعمود الفقريّ للكتابة. كما أنّ ديوانه "سجائر لايعرفها العزيز بودلير" (2015) تحمل ذات الثيمات التي تصبغ نصوصه، الفقد والحياة العبثيَّة واللاجدوى التي تلوّن معظم النصوص.
يشتغل ناجي رحيم الآن على مجموعة نصوص شعريَّة يصفها بأنّها "حالات بوح خالصة وملعونة ربما تكتمل هذا العام"، بالإضافة إلى مختارات وترجمات، تضاف إلى أعماله الشعريَّة الصادرة باللغتين العربيَّة والهولنديَّة، كما ساهم ناجي رحيم في إصدار مجاميع شعريَّة مشتركة مع شعراء يكتبون باللغة الهولندية، كان من بينها مجموعة تضمّ سبعة نصوص مكتوبة باللغة الهولندية مباشرة تحت عنوان: "لكلّ الفصول"، مترجمًا للكثير من الشعراء، مثل العراقي فاضل العزاوي، والمسرحي قاسم مطرود، والمغربي طه عدنان، وعمر الكدي من ليبيا، وحازت قصيدة له بعنوان "الوقت" على جائزة الهجرة البولنديَّة للشعر خلال عام 2003، الجائزة التي يتمّ منحها بشكل سنوي للكتّاب الأجانب المقيمين بهولندا، كانت مجموعة ناجي رحيم الأولى تحت عنوان: "حيثُ الطفولة نائمة" ومن ثمّ تبعها مجموعات أخرى.
- يبدو المشهد الشعري العراقي الجديد قاتمًا، المواضيع المطروحة دائمًا على علاقة بالحرب والفقد، كيف تنظر كشاعر إلى هذا المشهد الشعري الجديد؟
ملاحظتك دقيقة، وبصراحة سأستغرب كثيرًا إن لم يكن هذا المشهد الشعري كذلك، خاصة أنك تشير إلى المشهد الشعري الجديد، مثلًا الشعراء الذين ولدوا أثناء حرب الثمانينات أو الذين ولدوا في التسعينات صعودًا، فمن حصار خانق أدارته بحرص وحذاقة أعتى قوّة همجيّة في عالمنا المعاصر، إلى نظام دموي كان يتشبّث بأنياب ومخالب كي يستمرّ، إلى رواسب قهر وقتل لم تجفّ، إلى تدمير دولة. العراق دمّر بذريعة تحريره، النظام نفسه كان أداة مختلقة، ثم دمّروا العراق به، ذات الآلة المرعبة التي صنعته ودعمته، وقادته إلى حروب عبثية، حاصرته، حاصرت شعبًا مغلوبًا على أمره، ثم أزالته، كي تبدأ حلقة جديدة من دمار، بدأ نزيف دم وهو لم ينقطع أصلًا، تكسّرت أركان دولة كانت رغم كلّ شيء. نهب، وفوضى عارمة وزرع بذور حرب داخلية، لقد نجحوا، أعترف، نجحوا في تدمير العراق، الدم في الشوارع ، ضغائن جديدة قامت، أحقاد قديمة نبشت... إلخ، لن أغوص، أقول إذا لم يكن المشهد الشعري الجديد في العراق قاتمًا، كما أشرت أنت، سأستغرب كثيرًا، شعراء شباب ولدوا في مثل هذا الجحيم عمَّ يكتبون وهم يشهدون مدنًا يركض فيها الموت؟
موت قادم من خارج الحدود، موت تغذيه دول بفحيح طائفي، لعنة جغرافية تغذيه، موت مبرمج يعرف ماذا يريد، موت مقيم، عن أيّة زهور و"عوالم لازوردية" يكتبون، سيبدون مهرجين إن لم يطحنهم ما يعيشون يوميًا، نعم المشهد الشعري يبدو قاتمًا لأنه حقيقي، لأنه لامس ويلامس ويتحدّى، أنا أنظر إلى هذه الكتابة وأصفها بالتحدّي، ليس انكسارًا أن تكتب عن القبح، تصفه وتحجمه، الكتابة هنا تحمل معنى حياة، لم ينكسروا، بل كتبوا رغم كل شيء، وهذي حياة يُبنى عليها، أتابع بمحبّة أسماء شابَّة، قرأت مجاميع ناضجة، لا أشير الآن إلى أسماء كي لا أنسى أحدًا، أرى إلى المشهد الشعري العراقي الجديد بمحبّة كبيرة لأنه واعد ويشير بأصابع واثقة، سأكتفي هنا وقد أعود يومًا للكتابة عن أسماء شابة، لم تنقطع جذورها مع الشعرية العراقية، بملامح معروفة، لم تستعر هذي الأسماء الشابة أصابع غيرها، بل تكتب تجاربها هي، وهذا ما يعوّل عليه.
ناجي رحيم: في الثمانينيات صرت جنديًا، سائق عجلة إيفا، ست سنوات، أنقل عتادًا وجثثًا
- دائمًا ما تحيل قصيدتك إلى الفقد؟ إلى أي درجة أنت وحيد وضائع؟
لا أحيل إليه، وإنما عشت وأعيش الفقد، "روائح الفقد" كما أسميتها ذات مرّة في نصّ منشور، هذي ملاحظة دقيقة أخرى، تتكرّر مفردة الفقد كثيرًا في نصوصي، نعم، الفقد علامة في حياتي وليست رائحة فقط، ولأني عصارة عراقية، كما أزعم، فلي من أسباب الكون كلّها كي يعضّني الفقد، وعي مبكّر بالحرمان والقسوة واللاعدالة، ولدت في عائلة فقيرة في أحد أفقر أحياء مدينة الناصرية، محلّة الشرقية، الحي الذي لا يفارق ذاكرتي أبدًا، كما المدينة والأصحاب، أصابتني حمّى القراءة ومحاولة الفهم في البواكير، ولم أمتلك زاوية كي أقرأ، في المدرسة كنت متفوّقًا، لمست الخوف في عيون معلمين، السياسة وأكاذيبها، صرت شيوعيًا في المتوسطة، أنا نفسي ذهبت إلى أستاذ التاريخ في متوسطة الناصرية، "أستاذ أريد أصير ويّاكم"، سجنت بعد سنوات قليلة و"كسروا لي صباي"، كما كتبت أيضًا في نصّ منشور، ثم جاءت حرب الثمانينات وصرت جنديًا، سائق عجلة إيفا، ست سنوات، أنقل عتادًا وجثثًا، كنت قد بدأت الكتابة، كلّ هذا ذكرته في نصوصي التي تابعتها أنت، وإلا لم تلمس وتسأل هذا السؤال/ الملاحظة؟
اقرأ/ي أيضًا: ناجي رحيم.. الشاعر، السبّاب، الحسّاس
انتحر جنود قربي في الحرب، نقلت جثثًا، بالأحرى كنّا نجمّع أوصالًا. انتحر أصدقاء شعراء في الناصرية، لم يصبحوا جنودًا بعد، متابعة آلة الموت وحدها جعلتهم ينتحرون، الخوف المعلّب في النهارات والليالي، الخرس والتحدّي المبطن، هذا الصراع الداخلي المحتدم بدأ ولم ينته، نعم أنا أكتب عن فقدي، الفقد الذي عجن روحي وشاكسته سنوات، عاندته ولولا العناد ما بقيت، لستُ ضائعًا، لستُ وحيدًا، معي عوالم كاملة ترفس في بيت العين، في الروح، في صحوتها وغضبها، الفقد لأني، مثل ملايين العراقيين، لم أعش طفولتي ولا صباي ولا شبابي، الفقد لأن أحبّةً غابوا، تركوا أرواحهم في روحي ومضوا، الفقد لأن الكون دون دفء ووجوه حبيبة تافه لا معنى له، الفقد أن تكون هناك وهنا، في لا مكان، لست هناك ولست هنا، في أرجوحة الفقد التي هي العالم، نعم، العالم أرجوحة من فقد، هكذا أرى، الفقد رسم ويرسم حياتي لكنني رغم هدوئي الظاهري، أشاكس وأعاند، لذلك أظن أني لا أضيع، معي وجوه، معي مدن، مدن من ذكريات وأصحاب عمر أيضًا، يثب هذا المقطع الآن:
سواء كنتُ على الرصيف بين الجموع
أو في حانةِ الفقدِ
تتلاطمُ أسماكُ الأسئلة
في ينبوع الدّهشةِ أو صرّة الجنون
التي تدعى رأسي
- العزلة، ميّزة تتسم بها نصوص ناجي رحيم، ما هي العزلة برأيك؟ وهل نجح النثر العربي في تفسير العزلة؟
هل تتّسم نصوصي بالعزلة؟ هل العزلة ميزة؟ حقيقة لا أعرف، أؤمن بالتضمين، صدى قراءة نص أو نصوص، كتبت عن هذا ذات يوم، فعل التضمين، قد تصل نصوصي هكذا، قد، هل أنا قصدت إلى هذا، بحث آخر، أرى أني في لبّ العالم، في اللبّ، كما يقفز إلى ذهني الآن أبو العلاء المعري في عزلته المضيئة، رغم ابتعادي عن السؤال، أبو العلاء إحدى أيقونات الشعر العربي التي أحبّ بعمق، هل كان أبو العلاء منعزلًا حقيقة؟
أظن أن لا، تفاعل مع أحداث عصره، وأحداث روحه بالمعنى الفلسفي، وعبّر عنها، لم يكن منعزلًا، إلا إذا نظرنا إلى العزلة انقطاعه وانعزاله عن الناس، بيته كان محجًا للمريدين والطلاب، ضدّ رغبته، نعم، العزلة بالمعنى الروحي غير ممكنة، ينقطع الجسد عن مشاركة، ينعزل عن مهرجان من ضحك لأن الروح غير متضاحكة، العزلة برأيي رغبة واستحالة تكون رغم أي تناقض قد يكون هنا، أعتقد أن لا نثر ولا شعر يمكن أن يحيط بعزلة، لأنها في ذات الوقت ابتعاد وتفاعل، قد تكون وحيدًا وفي قلبك ترقص عوالم، وقد يصيبك دوار الوحدة في حشود من الناس، "معهم بعيدًا عنهم" كتبت في نص منشور، لا أحد باستطاعته قياس العزلة، التضمين شيء آخر غير النص، رواسب من أحداث العالم تنضح في كتابتي، بهذا المعنى أرى أني لست منعزلًا إذًا، رواسب من أحداث العالم، قد أشيح بروحي عنها، قد تشيح هي عني لكننا نلتقي كل ليلة ونتسامر، لا أتضاحك مثلما يفعل متضاحكون، إن كانت هذي هي العزلة فأنا منعزل نعم.
- الترجمة، كيف تنظر إلى حركة ترجمة الشعر العربي والعراقي منه بالتحديد إلى باقي اللغات؟ هل هي نشيطة أم لا وآليّة الترجمة كيف تنظر إليها؟
حسب معرفتي ومتابعتي المتواضعة، من الصعب الحديث عن "حركة ترجمة" من شعر عربي أو عراقي إلى لغات أخرى، الذي حدث ويحدث هو ترجمة إلى العربية، تجارب كبيرة في ترجمة أسماء عالمية، شعراء، كتاب رواية، أعمال فلسفية... إلخ، إلى العربية، لكن كم ترجم من شعر عربي أو عراقي إلى لغات أخرى؟ عادة هي جهود فردية، أتذكر هنا تجربة مجلة "بانيبال" التي يشرف عليها الروائي العراقي صموئيل شمعون. "بانيبال" بجهود تكاد أن تكون فردية أيضًا قدّمت وتقدّم أعمالًا إلى الإنجليزية، توجد تجارب أخرى أيضًا إلى الإنجليزية، والفرنسية، والإسبانية، والهولندية.
الترجمة موهبة بحد ذاتها، لكنها تتطلب جهدًا وصبرًا، متابعة ودراية، دعمًا واحتضان مؤسسات.. إلخ. إجابتي؛ لا أرى حركة ترجمة إلى لغات أخرى، توجد تجارب نعم لكنها محدودة جدًا، ترجمة إلى العربية، نعم حصل، ويحصل كما ذكرت.
ناجي رحيم: الترجمة موهبة بحد ذاتها، لكنها تتطلب جهدًا وصبرًا، متابعة ودراية
- معظم قصائدك تشي بالعبثيَّة ولا جدوى كل شيء، هل هو خطّ أم أنّك فعلًا هكذا وما تفسيرك؟
بل جدوى من كلّ شيء في لا جدواه. لا تناقض هنا، يحيلني سؤالك إلى أحد أحبّ المفكرين لروحي، الروائي والمسرحي كامو، العبث هو محاولة فهم العالم في لحظة تصادم، كما قرأت في مكان ما، أتذكر شذرات من أسطورة سيزيف الآن، تذهب إلى ركن الشارع، فيصيبك شعور بالغثيان، هذي اللحظة التي تلتقي بها مع العالم، علاقتك في ومع العالم. العبثي - ولا أريد الآن استطرادًا في مفاهيم كانت وخبت- هو الذي وعى وتغلّب على عبث العالم، ربما هو ما أسمّيه فعل المشاكسة، فعل الحياة، جدواها في لا جدوى، محاولة صنع جدوى، فيض الحالة الشعرية، تحاول أن تتصاعد وليس العكس، قبل أيام كتبت على الفيسبوك: سأخرمش وجه العالم كما يفعل أيّ قط.
اقرأ/ي أيضًا: محمد خضيّر.. ما فات وما لم يفت من السيرة
قد يكون هذا هو العبث، العالم الذي زرع روحك بالصديد عليك أن تخرمشه لا أن تنهزم، وهذا فعل خيار، نعم أنا أؤمن بالمشاكسة، بمحاولة التصاعد وعدم الانكسار، أؤمن بالتدفق الشعري في حالات بوح، أؤمن بالسكر والكحول، بالبوح، تفكير لحظة قد يذهب بنص، الكتابة الشعرية، حسب فهمي، ليست معادلات طلسمية أو لغة باردة تهندس أضلاع العالم، الجمال، كما أرى، هو محاولة ردم المستنقع أولًا، في عالم مليء بالكراهية والموت المجّاني عليك أن تبصق، أن تتحدّى وتحلم، هكذا أحاول، مرة أخرى بعيدًا عن ضخّ المفاهيم، أرى أننا نعيش في زمن عبثي بامتياز (بالمعنى السلبي الشائع)، رؤوس تقطع، أسئلة تتجمّد، عيون تصرخ، ومجرم يهلهل: الله أكبر، فتاوى التكفير، كن مثلي وإلا أقتلك، فصائل تحترف الذبح تتحدّث عن عدالة إلهية.. تافه مثل بوش يدمر بلدان، أوباما يحصل على جائزة نوبل للسلام.. الملياردير المنفوخ ترامب بمعادلات السوق والتهديد يقود أعتى قوّة في العالم.. ملايين أو مليارات تدفع على صناعة عدو.. شركات أسلحة عملاقة تبحث عن تصريف وحروب.. حركات مقاومة تختم بالإرهاب، عوائل مقيمة تشتري حمايتها بمئات المليارات ثم يأتي معتوه يتحدث عن حقوق إنسان... إلخ إلخ. عبث وجودي محض أو دعارة مقدّسة. أبتعد أيضًا عن السؤال، أدري. هذا هو رأيي الآن في هذي اللحظة. أظن أني فهمت اللعبة، لعبة وجودي في الوجود، لا تسألني كيف، بعد خمسين عامًا أمارس وجودي هنا، أحاول أن أشير، أن أعيش وأشاكس.
اقرأ/ي أيضًا: