"في هذا الغروب الشامل قد تكون قبسة الضوء الوحيدة هي وصف هذا الغروب"
- سعد الله ونوس – منمنمات تاريخية
ثمة اتفاق بين نقاد الأدب على أن الحدث/الكارثة الذي وقع صبيحة الخامس من حزيران/يونيو 1967 شكّل علامة في رواية الحرب المصرية، ليس فقط لجهة الموضوعات التي تتناولها الرواية بل أيضًا على الصعيد الفني، إذ استأثرت الهزيمة بالنصيب الأوفر من الاهتمام السردي داخل العديد من النصوص الروائية الراصدة والمستوحية للأجواء العامة لهزيمة 67، ولانعكاساتها التاريخية والسياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية والنفسية على المجتمع المصري، بمنظورات مختلفة ومن زوايا إبداعية متباينة، باعتبارها الهزيمة العربية التي كان لها، حتى اليوم، الأثر البالغ والصدمة الكبرى على العالم العربي برمته.
خلخلت هزيمة 67 الكثير من المفاهيم والقناعات والقيم والأساطير
هي الهزيمة التي خلخلت الكثير من المفاهيم والقناعات والقيم والأساطير، رغم أن الحروب والهزائم الأخرى التي عرفتها المنطقة العربية، وفي القلب منها مصر، كان لها هي أيضًا، ولا يزال، حضور لافت على مستوى الاستثمار التخييلي والسردي لها، ومن بينها على الخصوص حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973 التي ما زالت أجواؤها العامة، إلى اليوم، تفرض نفسها على المتخيل الروائي العربي والمصري.
اقرأ/ي أيضًا: الروائيون الجبناء ورواية "الحيط الحيط"
لعبة المرايا واستخدام حرب 1973 في توسيع هذا المتخيل الروائي والإضافة إليه وتطوير شكله العام، جاءت من قبيل إعادة النظر في بعض المسلّمات التي كثيرًا ما تغنت بها الكتابات الأدبية، كتلك التي احتفت بـ"حرب أكتوبر" من منطلق التعامل معها كانتصار جاء كرد فعل على هزيمة 1967، في الوقت الذي اعتبرت فيه نصوص أخرى حرب أكتوبر انتصارًا عسكريًا فرّطت القيادة السياسية في نتائجه الاستراتيجية (رواية "أربع وعشرون ساعة فقط" ليوسف القعيد، على سبيل المثال).
واللافت أن هزيمة 67 أنتجت روايات متعددة ، بينما لم يعط الروائيون العرب، خاصة في الدول التي وقع عليها العدوان الإسرائيلي وهي مصر والأردن وفلسطين وسوريا، الانتصار اللاحق في 1973 الاهتمام نفسه، وربما يكون ذلك مرده إلى أن تأثير الهزيمة كان هائلًا في نفوس مَن عاشوا الحلم الناصري وصدّقوه وآمنوا به، فإذا بهم يستيقظون على أسوأ كوابيسهم ويدخلون في حالة من الإنكار أو استعصاء الفهم، فضلًا عن الحمولة الرمزية الكبيرة لجمال عبد الناصر في المخيال العربي التي جعلت الهزيمة نقطة توقف محتملة في مسيرة الكثير من الروائيين المصريين والعرب، ولكن أغلب الظن أن كثير من الروائيين الذين تناولوا الهزيمة في أعمالهم أدركوا، وإن بشكل خفي، أن حقيقة المشكلة التي أصابت العقل العربي لم تكن في الحرب/الهزيمة نفسها بل في آثارها الممتدة والنامية.
يشير الناقد الفلسطيني فيصل دراج في دراسة له بعنوان "من رواية الهزيمة إلى هزيمة الرواية" إلى أمرين أساسيين صدرا عن هزيمة 67 في علاقتها بالرواية: تجديد الشكل الروائي تعبيرًا عن عن سقوط فترة اجتماعية تاريخية محددة، وانفتاح الرواية العربية على موضوع ثابت، لا يزال يتناسل، بأشكال مختلفة حتى اليوم، عنوانه التمزق الاجتماعي المستمد من الهزيمة وتواترها في جملة من الهزائم الاجتماعية والروائية أسهمت في تشكيل ضبابي فلم تعد السلطة في مكانها ولا الفرد ولا المجتمع، ولم يعد بقدرة الروائي التعامل مع هذه الأشياء بوضوح، فتحوّل العمل الروائي على هذا الأساس إلى عمل مهمش أو جهد إبداعي جديد يتجاوز كل الإبداع السابق. يتفق معه الناقد المغربي محمد برادة في دراسة له عن الكتابة الروائية الجديدة في مصر، حيث يؤرخ برادة لهزيمة 67 على أنها بداية الرواية المصرية الجديدة، حين أعلن الأدب بعد الهزيمة انشقاقه عن بقية الخطابات الأيديولوجية القائمة مبتدعًا طرقًا فنية خاصة به.
الحديث عن رواية ما بعد الهزيمة لا ينسينا أعمالًا أخرى تنبأت بالكارثة وحملت مقدماتها، وإذا كان أمل دنقل قد تنبأ بالهزيمة في ديوانه "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة"، أو محمد عفيفي مطر في ديوانه "النهر يلبس الأقنعة"، فإن الحضور الروائي لم يكن غائبًا عن الأمر، وتجلى ذلك في روايتي نجيب محفوظ "ميرامار" و"ثرثرة فوق النيل"، كما في روايتي يوسف إدريس "العيب" و"الحرام"، كما أن مسرح محمود دياب الذى دافع عن المعتقلين والمقهورين كان جزء من أعماله تنبأ بوقوع الهزيمة.
يرى فيصل درّاج أن الرواية العربية بعد الهزيمة استطاعت نقد الواقع السلطوي المهزوم بأدوات فنية
ويرى فيصل دراج أن الرواية العربية بعد الهزيمة استطاعت نقد الواقع السلطوي المهزوم بأدوات فنية، فبعد النص الواضح الشفاف جاء نص معتم يسائل كثيرًا ويقرر قليلًا، وانتهت النهاية المتفائلة إلي غير رجعة، وزال الخطاب التقريري اليقيني مفسحًا المجال لنص روائي قابل لأكثر من تأويل، وصعدت رواية الفرد المغترب صعودًا غير مسبوق. وإذا كان نجيب محفوظ قد أطلق رواية الفرد المغترب في روايته "اللص والكلاب"، فقد أصبح هذا الفرد، بعد هزيمة حزيران، "ثابتًا روائيًا" في كتابات روائيين عرب مثل تيسير سبول وغالب هلسا ومحمد البساطي وفؤاد التكرلي.
اقرأ/ي أيضًا: إدوار الخراط.. سيرة انشقاق
لكن تعامل الرواية المصرية مع الهزيمة لم يكن واحدًا أو متماثلًا، بل تحرك في عدة اتجاهات، فهناك مَن تناول الحديث عن الهزيمة من خلال تأثيرها على الشخصية المصرية، وهناك من سلك طريق النقد للفترة الناصرية، وحتى هذا الاتجاه الأخير لم تكن دوافعه وأسبابه واحدة. في كتابه الشهير "عودة الوعي"، دعا توفيق الحكيم إلى مراجعة حصاد مواجهة الاستعمار بفكرة رئيسية هي أن المواجهة بلا جدوى، واعتبر أن هذا هو الدرس المستفاد من هزيمة 67، وهي الدعوة التي ظهرت آثارها الأدبية في روايات دفعت باتجاه التطبيع مع إسرائيل. ولكن بعيدًا عن هذا الغزو التطبيعي في الرواية المصرية الذي ارتبط ظهوره بفترة حكم أنور السادات، ودعمه الشخصي لهذا الاتجاه؛ فقد ساهمت الهزيمة في بعث هواء جديد تنفسته الرواية المصرية، من خلال تصدى عدد من الكتاب الشباب حينها لتناول آثار تلك الهزيمة على الشخصية المصرية، مثلما فعل صنع الله إبراهيم في روايتيه "نجمة أغسطس" و"تلك الرائحة"، وعلاء الديب في روايته "زهر الليمون" التي تكشف عمق ما عاناه هذا الجيل منذ سنوات الهزيمة، لكن أقسى ما كُتب في هذا الصدد كان لعلاء الديب أيضًا ولكن في كتاب وليس في رواية، وذلك في "وقفة قبل المنحدر: من أوراق مثقف مصري" الذي ظهر في بداية التسعينات واشتمل على حكايات وتأملات تغطي الفترة بين عامي 1952 و1982.
نجيب محفوظ كان حاضرًا كعادته في تناول الموضوع، بل ربما كان هو الأغزر إنتاجًا، حيث كتب "الكرنك" التي فضحت تجاوزات الأجهزة الأمنية في العهد الناصري، بالإضافة إلى "الحب تحت المطر" و"ميرامار" و"ثرثرة فوق النيل" إلى جانب مجموعاته القصصية الثلاث "تحت المظلة" و"خمارة القط الأسود" و"شهر العسل".
كل هذه التجارب السابقة جاءت لتعلن ميلاد فنيات وسمات جديدة في كتابة الرواية، وشكّلت شهادة أدبية بأقلام مختلفة عن تحولات مجتمع مهزوم، كلما أراد تجاوز الهزيمة سقط في هزيمة أخري، مثلما يقول دراج، فظهرت روايات تتهم الأنظمة البائسة بتوزيع الاستبداد علي العقول والأرواح، ونفي المتمردين إلي اغتراب لا شفاء منه، والتسبب في حالة التشظي التي أصابت المجتمع المصري وأدخلته في دوامات متتالية من التغيرات الاجتماعية التي لم يستطع مقاومتها لاحقًا.
اقرأ/ي أيضًا: