اعتقد جميع البشر، قبل قرون من الزمن، بأن الأرض مسطحة، وقد واجه العديد من العلماء صعوبات في تغيير مفاهيمنا لهذ العالم المتغير.
ما يميز غاليلو أنه أصر على إظهار الحقائق فقام برسم خريطة مفصلة للقمر
عندما جاء كوبرنيكوس بنظريته التي تقول إن الأرض ليست مركزًا للمجموعة الشمسية، وإنها تدور في مدارات دائرية حول الشمس مثل باقي الكواكب، لم يكن آنذاك هذا الرأي مقبولً،ا وقد سجن غاليلي من أجل ذلك أيضًا.
اقرأ/ي أيضًا: الفلسفة والأدب.. سردية حب معلن
غاليلي استعمل منظارًا بسيطًا كان يستعمله البحارة في رحلاتهم البحرية، ولم يكن أول شخص خطر له أن يوجه هذا المنظار إلى السماء، فقد سبقه علماء من إنجلترا في ذلك، لكن ما يميز غاليلو أنه أصر على إظهار الحقائق فقام برسم خريطة مفصلة للقمر. مع إظهار فوهات البراكين وتضاريسه بدقة لم يتوصل إليها أحد من قبل. ثم ما لبث أن رصد الكواكب القريبة من الأرض مع أقمارها ونذكر منها كوكب المشتري وأقماره الأربع التي سميت باسمه.
ونظرًا لارتباطه بالجامعة آنذاك وضلوعه في الرياضيات والفيزياء فقد ساعده ذلك بالدفاع عن أفكاره، لكنه في الأخير قوبل بالرفض وذلك بسبب تنافي الحقيقة العلمية مع المعتقدات الدينية السائدة آنذاك.
هكذا بدأت الاكتشافات تتوالى وظهرت الصحوة العلمية في أوروبا، واستغرق ذلك وقتًا طويلًا ليصبح أمرًا مسلمًا به. لقد أثرت هذه الاكتشافات في ازدهار الفكر وتطوير العلوم ونشأة المذاهب الفلسفية مع ظهور ديكارت، وسبينوزا، ودفيد هيوم، وهيجل، وبوان كاريه... إلخ.
أثر ذلك في مسار الفكر الأوروبي بالكامل، حتى لم يعد للكنيسة الأهمية نفسها التي كانت تتخذها من الحياة. العلم ضيّقَ من مساحة الاعتقادات الدينية وعرضها للبحث التاريخي والتحليل المعرفي، فديكارت يعتبر أن الإيمان بالحقائق الدينية ليس فعلًا للعقل بل فعلًا للإرادة، لذلك لا يطبق عليه مقاييس الوضوح والتمييز. أما سبينوزا فيقول إن مبادئ الفلسفة تختلف اختلافا جذريًا عن مبادئ اللاهوت، ذلك أن غاية الفلسفة هي الحقيقة وغاية الإيمان الطاعة، تقوم الفلسفة على مبادئ وأفكار صحيحة وتستمد من الطبيعة وحدها.
تمادى الفلاسفة إلى أكثر من ذلك وعرضوا المعجزة والنبوة للتفكير والتحليل المنطقي. فإذا كان الله هو من منحنا ملكة التفكير فكيف به يمنعنا من التفكير في كيفية حدوث المعجزات والوحي والنبوة؟ بل أحيانًا نتساءل لماذا خلقنا الله في كل هذا الكون الفسيح، حتى أننا لا نمثل حتى أصغر جزء من الذرة بالنسبة لمجرتنا فقط؟
لكن هل يمكننا التفكير في مثل هذه الأمور التي لا تتوافق مع العقل. فالله لن يناقض نفسه بأن يمدنا بالعقل ثم يمنعنا من التفكير به بعد ذلك؟
تطور العلم ولم يعد يسعه ذلك الحيز الضيق الذي حصره فيه الاعتقاد الميتافيزيقي
عندما وجد اللاهوتيون أنفسهم في مأزق لجؤوا إلى حجة أخرى لتدعيم عقائدهم، وتقتضي هذه الحجة بأن الكتب المقدسة في حد ذاتها تحمل إعجازًا علميًا، وكل ما في الكتاب يفسر جميع الظواهر الكونية والفيزيائية، فما عليهم إلا استنباطها من الكتاب المقدس وتفسيرها، متناسين بذلك أن مهمة الكتب المقدسة هي تقديم تعاليم يسيرة للغاية لا تحث إلا على الطاعة وتقتصر عقيدتها في الطبيعة الإلهية على ما يمكن اتخاذه كقاعدة عملية في حياة الناس اليومية.
اقرأ/ي أيضًا: هل الفلسفة الغربية عنصرية وكارهة للأجانب؟
في الأخير، سيتبين أن الكتب المقدسة ليست كتبًا علمية لما فيها من أخطاء علمية شائعة ومتناقضة تمامًا مع العلم الحديث، بل وفي بعض الأحيان صادمة عندما يتعلق بالمعجزات والخوارق التي حدثت في زمن الأنبياء. فهم يعتقدون أن أوضح برهان على وجود الله هو الخروج الظاهر على نظام الطبيعة، لذلك يبدو في نظرهم من يفسر الأشياء والمعجزات بالعلل الطبيعية، أو من يبذل جهده من أجل معرفتها بوضوح يبدو كأنه قد ألغى الله، أو على الأقل قد أسقط العناية الإلهية لأن القوانين هي فعل الله في هذه الكون. فإن سلمنا أنه فعل ما يناقض هذه القوانين الطبيعية التي لم تتغير أبدًا منذ الانفجار الأعظم إلى يومنا هذا، فإننا سنضطر لأن نسلم أنه يفعل ما يناقض طبيعته الخاصة.
إن مشكلة الدين والعلم ليس جديدة، وقد وقع التصادم بين هذين المجالين متسببًا في مقتل العديد من العلماء والفلاسفة على مر العصور. ذلك لأن الدين لم يأبَ إلا أن يبلغ جميع المجالات ويغلفها بغشائه، لكن العلم تطور ولم يعد يسعه ذلك الحيز الضيق الذي حصره فيه الاعتقاد الميتافيزيقي. فقد توسع وأصبح يبحث عن أصل الكون والإنسان مجيبًا عن أسئلة عجزت الديانات عن تقديم أجوبة مقنعة لها.
هل يمكن للعلم أن يلغي الدين بالكامل؟ لكل علم حدوده فلا يستطيع أحدهما أن يتعدى على حدود الآخر، ولا يمكن للدين مثلًا تفسير نشأة الكون أو تطور المخلوقات، كما لا يمكن للعلم أن يكشف لنا بعض الأمور المتعلقة بالغيب. وإن كان هذا الحيز قد أصبح أكثر ضيقًا من أي وقت مضى.
اقرأ/ي أيضًا: