كان من الصعب على مراهق يتعرف حديثًا على الفكر اليساري ويعارض، في الآن نفسه، نظام حافظ الأسد أن يجد حلًا لمعضلة فكرية وسياسية تتمثل في أن ما كان يسمع عنه في الفكر اليساري، وما كان يقرؤه في هذا الفكر هو ذاته ما كان يكرره حافظ الأسد في كل خطاباته بدون استثناء. كان صعبًا أن يجد حلًا فكريًا أو سياسيًا لذلك، لا سيما عندما يتعلق الأمر بتمجيد الأسد لحركات التحرر العالمية، مرورًا بإعلانه الخصومة مع الهمينة الإمبريالية الأمريكية على العالم، وصولًا إلى جبهة عالمية لمقاومة الاستعمار بأشكاله القديمة والجديدة.
كان إعلان بعض أذكياء اليسار موافقة الأسد على سياسته الخارجية التقدمية ومعارضته في سياسته الداخلية الرجعية مدخلًا معقولًا
كان إعلان بعض أذكياء اليسار أنهم يوافقون الأسد على سياسته الخارجية التقدمية ويعارضونه في سياسته الداخلية الرجعية مدخلًا معقولًا، بل حاسمًا، لهذا الصراع الشاق الذي لم ينفك يؤرق ذلك اليساري الجديد. إذ، ما دام الأمر كذلك، فيجب عليه أن يقسم الأسد إلى قسمين: قسم معه وقسم ضده!
لكن سرعان ما كان الأرق يصيبه عندما تظهر على نحو فاقع سياسة داخلية ما، كانت نتيجة واضحة لسياسة خارجية، كأن تُفرض عقوبات اقتصادية على النظام، يعاني منها الفقراء، وتكون هذه العقوبات "الداخلية" نتيجة لموقف "خارجي" انتهجه أو أعلن عنه الأسد! أو الإقدام على سياسة خارجية نتيجة وضع داخلي معقد، كدخول النظام السوري إلى لبنان نتيجة أزمة داخلية تعرض لها! في هذه الحالة لن يبقى قسما الأسد معزولين، وسوف يسيل قسم على الآخر وتضيع الحدود بينهما، الأمر الذي يعني فجوة هائلة في هذا الفكر اليساري المعارض للنظام، فكيف أكون مع نصفه وضد نصفه في الآن معًا؟ لا سيما أن نصفيه هذين يتسعان ويضيقان ويتحركان ويمتزجان على نحو دائم؟
وقد عمق هذه الفجوة القرار النهائي للفكر السياسي المعاصر من أنه لا فصل على أي نحو بين السياسات الخارجية والداخلية للدول والأنظمة. وحيث أن الأمر هكذا فسيكون التعارض بين النظام السياسي ومعارضته هذه ثانويًا وليس جذريًا، وباعتباره هكذا فإنه لن يؤدي إلى حركة ثورية ضده، وهذا ما حدث في سوريا، فلم يكن التناقض بين النظام السياسي ومعارضته اليسارية جذريًا.
خلال تحليل أنجلز (1820 – 1895) لحرب الفلاحين في ألمانيا (القرن السادس عشر) توصل إلى نتيجة لامعة وهي أن الفلاحين لا يقومون بثورة ضد الإقطاع لأنهم يتماثلون معه فكريًا. هو يرى أن العمال يقومون بثورة لأنهم يتناقضون فكريًا مع البرجوازية. اليسار في سوريا، كما في العالم، لا يتناقض فكريًا مع النظام السياسي، بل يشترك معه في عموم الطروحات، وحتى في التوجه الأخير الذي يريده اليسار للبلد، وهو تحقيق الاشتراكية، نجد أن هذا الهدف النهائي هو هدف النظام أصلًا "لا حياة في هذا القطر إلا للتقدم والاشتراكية" وهذه واحدة من مقولات الأسد المنتشرة كالصئبان.
هذا التماثل الفكري يجعل من كفاح اليسار كفاحًا غير مقترن بنتيجة، كما جعله يظهر هشًا في أول امتحان له منذ نشوئه، وقد كانت الثورات العربية امتحانًا أول لهذا اليسار، وكانت النتيجة أنه فشل فشلًا تاريخيًا وقاسيًا عندما اختار الوقوف إلى جانب الطغاة، لا الثورات. فعلى الرغم من حمام الدم السوري غير المسبوق، وحجم الدمار الأول من نوعه منذ الحرب العالمية الثانية، والرقم القياسي في تدخلات الدول واحتلالها لسوريا، لم يزل اليسار، كبنى وليس كأفراد، يقف إلى جانب نظام الكيماوي والبراميل.
يمكن التفكير بصياغة فكر لا يتقاطع مع الطغاة، ولا ينتجهم، ولا يصنعهم
ربما يفسر هذا انكفاء الناس عن هذا الفكر وشعاراته التي تشربوها على امتداد القرن العشرين (تقريبًا) وأثبتت أنها لم تقف مع الناس حين احتاجها الناس، بل وقفت ضدهم، هي التي نشأت، أساسًا، كما لم تنفك عن القول، لتحقيق طموحات الناس وتطلعاتهم. وهذا يفسر، ربما أيضًا، ذهاب الناس، فكريًا، إلى نقيض هذا الفكر الذي هو فكر السلطة والمعارضة معًا، كان لا بد للناس أن يتناقضوا فكريًا مع النظام ليستمروا بالثورة ويحققوا غاياتها، وحيث إن التيارين الأكثر رواجًا في المنطقة العربية هما التيار اليساري والتيار الإسلامي، كان أن لجؤوا، كأمر واقع، إلى التيار الإسلامي بعد سقوط اليساري.
إذن، هم لجؤوا إلى ضفة لا يوجد سواها، ولم يختاروها اختيارًا حرًا، وكان شعار "يا الله مالنا غيرك" هو التعبير الأكثر صراحة عن هذا اللجوء وليس الاختيار، فقد شعروا أن الأفكار التي تربوا عليها أبًا عن جد خذلتهم، وخذلهم معتنقوها، وتركوهم وحيدين لمصيرهم.
انطلاقًا من ذلك، يمكن التفكير بصياغة فكر لا يتقاطع مع الطغاة، ولا ينتجهم، ولا يصنعهم. فكر يختاره الناس لا يلجؤون إليه لجوءًا.
___
اقرأ/ي أيضًا: