17-أغسطس-2023
علم البيانات

علوم الكمبيوتر كُلها مبنية على الرياضيات. أرقامٌ تظهر حقائق، وحقائقٌ تثبتها أرقام ومعطيات تغذي خوارزميات تحول البيانات التي لا تبدو مهمة للبعض إلى معلومة نهائية. هذه الأرقام المجمعة منذ بداية عصر تجميع البيانات صارت لها قيمة الآن، ولا تنوي بعض الأندية الاستغناء عن هذه الأدوات الجديدة في عصر الذكاء الاصطناعي والحوسبة الشاملة.

القيمة بالنسبة لأندية كرة القدم تكمن في قراراتٍ تبدأ من التدريبات وتنتهي بالصفقات، ولكن  الكلمة في كرة القدم لم تعد ملكًا للمدرب أو المدير الرياضي فقط. الكلمة صارت أيضًا ملكًا لفريق لا يرى أرضية الملعب إلا على شاشات الكمبيوتر، فريق علوم البيانات.

علوم البيانات وفروعها

"عذب البيانات وستعترف لك بأي شيء." - رونالد كوس، اقتصادي حاصل على جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية.

علوم البيانات تعتبر من أحدث المجالات ذات التخصصات المتعددة والمبنية على التحليل الإحصائي، أنظمة تعلم الآلة والدراية بالمجال التي تعمل في إطاره. هذا هو التعريف الأكاديمي لها، ولكن الأسهل من هذا هو التفكير فيها وكأنها مصنع يحول المواد الخام إلى مواد ملموسة، والمواد الخام هي المعطيات والمواد الملموسة في الناتج النهائي أو القرار في حالات الرياضة.

خطواتٌ كثيرة تمر بها عملية تحليل البيانات، وهي العملية الأساسية التي بني عليها الذكاء الاصطناعي، تبدأ من تجميع البيانات من شتى المعطيات والمصادر وتنتهي بوضعها في قالبٍ قابل للبرمجة. هذا القالب يدخل في عمليات حسابية دقيقة للوصول إلى معلومة تُبنى عليها نظرية أو تظهر أي احتمال ممكن.

يظل تعلم الآلة هو المجال الوحيد المُلِم بكل هذه الخطوات، بل ويكمل عليها بتنبؤات مبنية على ما رآه من معطياتٍ سابقة ونتائج أنتجها هو بنفسه أو تعلمها من مُطوريه. ليست كل الاستنتاجات صحيحة بالتأكيد، لكن يطمح الفريق العامل على نموذج تعلم الآلة الخاص بمؤسسته إلى الوصول إلى أعلى معدلات الدقة وتجهيزه للحصول على بياناتٍ جديدة لا تؤثر عليه سلبًا.

قبل وصول أنظمة تحليل البيانات، كان الحل الوحيد أمام الفرق للحصول على بيانات اللاعبين الأجانب أو المغمورين هو فريق الكشافة. فريقٌ يتكون من أشخاصٍ يكرسون ساعات عملهم في الترحال بحثًا عن أهداف يمكن استقطابها لفريقهم، فيتابعون مبارياتهم على مدارٍ طويل ويجمعون البيانات الخاصة بأدائهم في الملعب لتسليمها لفريق التدريب.

وقتها يأخذ فريق التدريب هذه البيانات ويدرسها جيدًا مع مشاهدة مئات مقاطع الفيديو الخاصة بأي لاعب يستهدفه النادي. يحاولون هنا الخروج بأية أنماطٍ محددة لأسلوب اللعب والتعرُّف على مشاكله داخل الملعب، ومن ثم يأخذون القرار النهائي بشأن ضمه. هذه العملية تأخذ فترة قد لا تقل عن نصف موسم، وبهذا تُعرِّض النادي للكثير من المتاعب التي حررتها منه أنظمة تحليل البيانات.

تحليل البيانات سلاح ذو حدين يسنه الكشافة

قد يظن البعض أن اعتماد تحليل البيانات سيجلس الكشافة في منازلهم وكأن الخلاص في يد الكمبيوتر. هذا المفهوم خاطىء تمامًا لأن دور الكشافة الآن صار أكثر تعقيدًا، فهم يحضرون المباريات في الدوريات النائية التي لا يوجد مصدر لبياناتها الكاملة مثل دوريات أمريكا اللاتينية والدوريات العربية، ويشاركون أيضًا في الحكم "البشري" على البيانات المجمعة عن اللاعبين. لا يمكن التخلي عن العنصر البشري لأنه لا زال قادرًا على تحديد أهمية اللاعب في إطار فريقه، وحوسبة هذا الأمر تعتمد على عوامل بشرية بحتة.

العملية التي سهلها تحليل البيانات عمّا مضى هي عملية تجميع البيانات نفسها. عوضًا عن مقاطع مسجلة للاعب من المباريات وعرضها على فريق الكشافة، تعرض هذه المقاطع على أنظمة تحليل مباريات مصممة داخل الأندية أو تشتريها من شركات البرمجيات. هذه المقاطع تُدخل كل ما بالملعب في خوارزميات معقدة تُخرج في النهاية تقريرًا شاملًا عن اللاعب في كل مباراة، والأهم أن التقرير النهائي يضم كل ما يفعله اللاعب بالكرة أو بدونها في الموسم أو في مسابقة بأكملها.

المعطيات المحسوبة لكل لاعب

يجمع نظام التحليل كل بيانات اللاعبين ويحولها لأرقامٍ يمكن معالجتها داخل إطار حسابي. العمليات الهجومية والدفاعية تتحول إلى قيمة قابلة للقياس بعد دخولها في بضع عمليات حسابية، وهذه القيمة مبنية بالكامل على أنظمة تعلم الآلة التي سحبت البيانات من المباراة على هيئة رسومية وعالجتها حتى تخرج بالقيمة التي تخرج بها، سواءً كانت مئوية أو عددًا عشريًا.

في الصورة أعلاه: البيانات الهجومية المجمعة عن مويسيس كايسيدو في الدوريات التي شارك بها.

مثال على الأرقام التي تحسبها هذه الأنظمة والتي تلعب الدور الأكبر في تحديد قدرات اللاعب هي:

  • الأهداف المحرزة.
  • صناعات الأهداف.
  • المساحة المغطاة على أرضية الملعب.
  • الالتحامات الأرضية والهوائية.
  • سرعة اللاعب على مدار المباراة.
  • الأهداف المتوقعة(يتم معالجتها منفردة).
  • الصناعات المتوقعة(يتم معالجتها منفردة).
  • مؤشر تأثير اللاعب على المباراة.

في حالة وجود لاعب يريد النادي استقطابه، سينظر فريق تحليل البيانات والكشافة إلى بيانات هذا اللاعب لدراسة أسلوب لعبه ليتسنى لهم معرفة إن كان مناسبًا للفريق. لا يعني هذا أن اللاعب سينضم للنادي بكل تأكيد، بل يرسم صورة أيضًا للمرشحين البدلاء لهذا اللاعب بمقارنة بياناته مع أصحاب نفس المركز.

إيجاد الحلول البديلة

 

على سبيل المثال، قصة مويسيس كايسيدو مع ليفربول بدأت من البحث عن لاعب خط وسط مدافع ليعوض رحيل فابينهو وهينديرسون. الريدز يريدون لاعبًا يستخلص الكرة بكل سلاسة من لاعبي وسط الفريق المهاجم، وهذا يعني معدلات عالية للتدخلات النظيفة وقطع التمريرات بين فريق الخصم أيضًا.

كايسيدو رفض ليفربول وذهب لتشيلسي، وهنا يبدأ أحمر الميرسيسايد في البحث عن لاعب بإحصائيات قريبة منه. خيارات مثل روميو لافيا وبالينها أرقامها قريبة من مويسيس، وقد ينتهي الأمر بأحدهم في أنفيلد رود لتعويض خسارة كايسيدو. الحلول البديلة قد تكون أرخص بنصف السعر، وسيعمل النادي على تقوية نقاط ضعفهم للوصول بهم إلى مستوى الهدف الأصلي، وهو كايسيدو في حالة ليفربول.

لا تكلف الحلول البديلة الكثير من المال، ولكن الوصول لمستوى الهدف الأصلي أصعب. لاعبون يمتلكون المقومات الأساسية ليصبحوا الأفضل في مراكزهم ولكن يحتاجون إلى التدريبات الملاءمة لهم، وهنا يظهر الخطر. احتمالاتُ الخطر مثل عدم توافق اللاعب مع التمرينات التي سيحصل عليها، قلة البيانات المُجمعة عنه إن لم يلعب إلا موسم أو اثنين وعدم وجود تاريخ مجمع عن لياقته قد تظهر للنور في الأعوام التي تليها، وهذا لن يرضي النادي الذي حصل على خدماته.

اللياقة لها حساباتها الخاصة

 

لا يقف دور تحليل البيانات عند الصفقات فحسب. مراقبة الأداء وتقليل الإصابات الرياضية من أهم تطبيقات تحليل البيانات داخل الأندية، وشركة مثل Zone7 بنيت اسمها في هذا المجال عندما تعاونت مع نابولي لمراقبة لياقة لاعبي الفريق.

باستخدام مستشعرات وأجهزة حساسة أثناء التمرين، يلتقط الفريق الطبي جميع أنماط حركة المتدربين داخل أرضية الملعب. أرقام مثل معدل ضربات القلب، السرعة والمساحة المغطاة طوال الموسم يمكن تحليلها لمعرفة إن كان الحمل زائدًا على اللاعب وقد يتسبب في إصابته أم لا، أو حتى لو كان يظهر بوادر الإصابة في الملعب.

الإصابة لها حساباتها الخاصة مع وجود تحليل البيانات، حيث تتم مراقبة بيانات إعادة التأهيل للاعب المصاب مع بداية البرنامج العلاجي الذي يمر به. هذا يسمح للفريق الطبي بالتعرف على قوة الجزء المصاب أثناء هذه المرحلة، والعمل على تقليل وقت الإصابة بالتأكد من أن البيانات المجمعة تتوافق مع الوقت القياسي للشفاء، وهذا مع تعديل البرنامج العلاجي ليتوافق مع حالة اللاعب.

لا تتعلق اللياقة فقط بالإصابات، ومن الطبيعي أن تحلل جميع بيانات التغذية للاعبين والتعرف على أنماط النوم الخاصة بهم. هذه الخطوة ضرورية لفريق التغذية، والذي سيرسم من هذه البيانات خطة تناسب كل لاعب مع وضع بياناته في الحسبان عوضًا عن تطبيق خطة غذائية للفريق كله.  مع تجميع بيانات الاستشفاء والإصابات مع التغذية، يمكن للفريق الطبي تدعيم الملف الطبي للاعبين بوضع كل هذه النقاط في الحسبان.

تجربة برينتفورد تعكس أهمية تحليل البيانات

"المفتاح هو التعرف على المواهب غير المقدرة في السوق، نطورهم، ونبيعهم لجني الأرباح، وتدريجيًا نضع قيمة أكبر في تشكيلتنا ونرفع مستواها." -  راسموس أنكيرسين، المدير الرياضي السابق لبرينتفورد.

 الكلمة في كرة القدم لم تعد ملكًا للمدرب أو المدير الرياضي فقط. الكلمة صارت أيضًا ملكًا لفريق لا يرى أرضية الملعب إلا على شاشات الكمبيوتر، فريق علوم البيانات.

راهن ماتيو بينهام على البيانات بعد شرائه نادي برينتفورد في عام 2015، وقرر منذ وقتها أن يصبح النادي معتمدًا بشكلٍ كامل على تحليل البيانات. الرؤية التي وضعها مع أنكيرسين، المدير الرياضي للنادي وقتها والحالي لساوثهامبتون، ركزت على المواهب في أندية الدوريات متذيلة الهرم الإنجليزي وتطويرها في المساحات المثالية لها.

كل البيانات المذكورة في الأعلى استخدمها فريق التحليل في برينتفورد ليحصل على خدمات لاعبيه منذ 2015، وقسمهم إلى مجموعتين: مجموعة مستمرة مع النادي ومجموعة تباع ويعاد استثمار أموالها في النادي مرةً أخرى. مثال على المجموعة الأولى إيفان توني الذي جاء من بيتيربورو يونايتد في الدوري الأول وظل مع الفريق حتى شارك معه في الدوري الممتاز، والمثال الثاني واتكينز الذي باعه لأستون فيلا بـ 28 مليون بعد أن اشتراه من إيكستر سيتي بـ 1.8 مليون جنيه إسترليني.

أسلوب اللعب تأثر أيضًا بشكلٍ واضح. لعنة برينتفورد في بداية مشواره مع الإدارة الجديدة كانت صناعة الفرص، والتي تسببت في سقوط معدلات التهديف لعدم تناغم الفريق مع بعضه البعض. حُلت هذه الأزمة بتفصيل أنماط تمرين جديدة تركز على تحسين التمريرات والكرات الثابتة، مما أثر مباشرةً على معدلات التهديف بالإيجاب.

ليفربول معروف بعشقه لتحليل البيانات منذ وصول الفيزيائي إيان جراهام للفريق، ووقتها ركز على هذا المشروع حتى يتسنى له إعادة بناء الفريق تحت قيادة يورجن كلوب. الصفقة الألمع كانت محمد صلاح، والذي لم يتوقع أحد أن ينفجر في الريدز بهذا الشكل. ترك صلاح روما بمعدل 11.62 للأهداف المتوقعة في موسمه الأخير من 80 فرصة على المرمى، ورفع هذا الرقم إلى 25.7 هدفًا متوقعًا، بل وكسره صلاح عندما أحرز 32 هدفًا في الموسم الأول له في الدوري الإنجليزي.

هذا يعود إلى تركيز الفريق على تمكين صلاح من التسديد من أماكن مختلفة وتدريبه على الحركة بحرية أكثر في الملعب، وهذا مع تحسين برنامجه الغذائي ليتوافق مع حركته المستمرة في الشق الأيمن من الملعب وفي الثلث الأخير تحديدًا.

مانشستر سيتي
لا تحتاج كل الصفقات إلى تحليل للبيانات

 حتى تنفيذ ضربات الترجيح اعتمد على تحليل البيانات لفريق ليفربول بأكمله، وهذا بالتعاون مع Neuro11 التي قدمت خدماتها للفريق. بأجهزة معتمدة على مستشعرات متقدمة، تم تجميع كل البيانات الخاصة بضربات الجزاء لكل لاعب والعمل على تحسينها بشكلٍ واضح في بيانات اللاعبين النشطين في النادي، وعلى رأسهم صلاح بـ 20 هدفًا من أصل 24 ضربة جزاء.

لكن هناك صفقات أكثر صراحة تأتي من المدرب وفريق الكشافة، ومثالٌ عليها هالاند. لا يحتاج أحد للبيانات في حضرة هالاند الذي يعرف جيدًا كيف يحرز هدفه القادم، وأي مدرب تابعه من أيام سالزبورج سيتمنى أن ينضم هذا الفتى لفريقه. مانشستر سيتي لم يحتاج إلا لمشاهدة مقاطع اليوتيوب الخاصة بأهدافه فقط لا غير، والحزمة الكاملة التي يقدمها اللاعب لأي فريق سينضم له.

مثله مثل أي مجال دخل الذكاء الاصطناعي في عمله، يبقى تحليل البيانات أداة تسهل العمل كثيرًا على الفريق الرياضي. لا يمكن أن يستبدل، حتى الآن، المدرب أو الفريق التدريبي على أرضية الملعب، ولكنه يجعل عملهم أكثر قيمة عما مضى ولا يمكن الاستغناء عنه من قبل الفريق الذي سيتبناه.