بمراجعة ميثاق الأمم المتحدة حول تقديم المساعدات في ظروف الحروب والمجاعات والكوارث الطبيعية، نقرأ أن أحد أهم مقاصد الأمم المتحدة في هذا الصدد هو: "تحقيق التعاون لحل المشاكل الدولية ذات الصبغة الاقتصادية، أو الاجتماعية، أو الثقافية، أو الإنسانية"، ومن المفترض أن تكون المنظمة حاضرة وقوتها رادعة بما يكفي لإدخال المساعدات الإغاثية لأي بلد تعاني من أي مشكلة بغض النظر عن العرق أو اللون أو الدين والانتماء. هذا الوضع الطبيعي لعمل المنظمة التي يحتاج لها المجتمع الدولي في تخفيف الأزمات، لكن حتى الآن يبدو أن حرب غزة لم ترتق بالنسبة لهم لمستوى أزمة عاجلة تحتاج تدخلًا سريعًا.
دخلت الحرب على غزة شهرها السادس ولا تزال قوافل المساعدات عالقة على الحدود المصرية الفلسطينية عند نقطة معبر رفح، والذي حصل حوله لغط كبير وتراشقت كل من مصر وأمريكا والاحتلال الإسرائيلي الاتهامات بشأن المسؤولية عنه، وعن التحكم بمرور المساعدات، دون أدنى قدرة دولية على الإشارة بالإصبع إلى المسؤول عن عرقلة وصول هذه المساعدات إلى غزة.
وفي ظل صمت مطبق حيال صعوبة، أو استحالة، تدفق المساعدات أمام التدقيق الصارم من الاحتلال الإسرائيلي على المنتجات الداخلة ضمن المساعدات، سواء على معبر كرم أبو سالم أو معبر رفح، يصطدم منسقو المساعدات بإجراءات بالغة التعقيد من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي، بزعم أن هذه المساعدات تذهب إلى مقاتلي "حماس".
ومنذ بداية الحرب، يتجاهل الاحتلال الإسرائيلي أن الحصار المفروض على غزة وتدمير البنية التحتية وتخريب المزارع والمحاصيل الزراعية والمعامل الصغيرة في القطاع، أسباب كفيلة بأن ينتهي مخزون غزة الغذائي أولًا، ومخزون الخدمات المساندة (خدمات النظافة والطاقة والملابس والصيانة وغيرها) ثانيًا، في أول أسبوع من الحرب، الأمر الذي أحدث فجوة هائلة بين حاجة الغزّيين من المواد وحجم المواد المتاحة في السوق أو حجم المساعدات الضئيل الذي أُدخل على مرات متباعدة، وفشلت الشحنات اليومية في تعويض النقص الهائل في السلع والأضرار المتراكمة للحرب على القطاع.
لا يوجد مكان آمن في غزة، ولا يوجد مكان فيه لاجئون إلا ويحتاج شاحنات من المساعدات العاجلة، لكن الأكثر تضررًا هم سكان شمال غزة الذين يقدر عددهم بنحو 300,000 نسمة
فعليًا، لا يوجد مكان آمن في غزة، ولا يوجد مكان فيه لاجئون إلا ويحتاج شاحنات من المساعدات العاجلة، لكن الأكثر تضررًا هم سكان شمال غزة الذين يقدر عددهم بنحو 300,000 نسمة، والذين بقوا في مناطق القصف ولم تسعفهم خطط النجاة نحو الجنوب، حيث تحملت المنطقة العبء الأكبر من الهجوم البري للاحتلال الإسرائيلي، ولم يعد أحد قادرًا على القيام بأعباء الحياة هناك ولجأوا إلى أكل أعلاف الحيوانات كوسيلة للبقاء على قيد الحياة.
وعلى الرغم من التوجه الأممي لمساعدة القطاع، والحديث بشكل مستمر عن إرسال قافلات المساعدات وفتح المعابر، والحديث عن مأساة حقيقة يتعرض لتفاصيلها الفلسطينيون، إلا أن استمرار عدم تدفق المساعدات يشي بأزمة مختلقة لتمرير أجندات كالضغط على قيادات "حماس" من الناحية الشعبية، والضغط على قادة الفصائل العسكرية العاملة في القطاع بالاستسلام والانصياع لرغبة الجمهور العامة بتأمين لقمة العيش لا أكثر.
يجسد حوار جيمي ماكغولدريك، منسق الأمم المتحدة المقيم ومنسق الشؤون الإنسانية في الأرض الفلسطينية المحتلة المؤقت، حول أزمة المساعدات الموقف ذاته، إذ إنه يعد أن الأزمة الإنسانية في غزة "بلغت مستوى لم نشهده من قبل"، وتتكشف ملابساته و تداعياته على نطاق واسع وبسرعة هائلة. وبالرغم من أن مجتمع العمل الإنساني الدولي يستخدم كل السبل المتاحة والممكنة لمحاولة تأمين الاحتياجات الأساسية في القطاعات الأربعة الحيوية - وهي المياه والصرف الصحي، والصحة، والغذاء، والمأوى، إلا أن هذه الجهود تذهب هباءً مع قرار إسرائيلي بإغلاق المعابر، وحظر العديد من المواد والأدوات الضرورية. يقع على عاتق منظمات الإغاثة الدولية والجهات الحكومية وغير الحكومية الضغط على الاحتلال الإسرائيلي لإزالة مجموعة كبيرة من الأدوات الضرورية من قائمة المحظورات، لإدخالها إلى القطاع بأسرع وقت.
يعي العاملون في المجال الإغاثي خطورة إصرار الجيش الإسرائيلي على عدم فتح المجال أمام المساعدات للعبور إلى القطاع، ورفض إعطاء تصريحات أمنية للشاحنات، وتقرير ما هي المساعدات التي يمكن إدخالها والمساعدات المرفوضة، وبالتالي فإن الضرر اللاحق بالمواد على الحدود كبير ويسبب إتلاف ملايين الدولارات المقدمة من الدول المانحة والمنظمات الإغاثية دون أي تفاعل دولي مع الحدث.
يتذرع الاحتلال الإسرائيلي بحجة أن المنتجات ذات الاستخدام المزدوج للبنية التحتية الإنسانية والمدنية في غزة لا يُمنع دخولها بشكل قاطع، وهي تدخل بحسب نتيجة التقييم الأمني، وذلك لشكوكهم أن هذه المساعدات تستفيد منها فصائل المقاومة العسكرية في غزة وفيما يتعلق بمزاعم منع دخول بضائع محددة. هذه البضائع متعارف عليها باسم "Dual -use aid" وتشمل في الأحوال العادية الادوات الكهربائية وأدوات التنظيف العميقة والأدوات الزراعية وأدوات تكنولوجيا المعلومات.. إلخ. إلا أنه في حالة مساعدات غزة، لا يوجد تصنيف واضح لماهية المواد المحظورة، والقائمة فضفاضة قد تضاف إليها أية مادة مساعدات بحسب مزاج التدقيق الأمني الإسرائيلي، وقد تدخلها أبسط المواد بحجج واهية.
وبعد زيارتها للجانب المصري من معبر رفح، قالت جانتي سويريبتو، الرئيس التنفيذي لمنظمة "أنقذوا الأطفال"، في حديث مهم حول آلية تقديم المساعدات، إنه لم يسبق لها أن شاهدت سلسلة توريد مساعدات ينبغي أن تكون بسيطة جدًا، وأن تكون معقدة إلى هذا الحد.
أتى هذا الحديث بعد أن شاهدت مستوى الحواجز التي يتم وضعها لعرقلة المساعدات الإنسانية إلى القطاع. أحد الحوادث التي أثارت المخاوف بحسب رئيسة المنظمة هي أن إسرائيل رفضت إدخال الألعاب المخصصة لأطفال النازحين في القطاع، والسبب أنها كانت في صندوق خشبي وليس في صندوق من الورق المقوى، ورُفضت أيضًا أكياس النوم لأنها تحتوي على سحابات لإقفالها، كما رفضت قوات الاحتلال شاحنات أدوات صحة ونظافة شخصية، لأن مقص الأظافر كان ضمن مجموعة أدوات النظافة.
وعلى مستوى أعلى، يقول جيمي ماكغولدريك، منسق الأمم المتحدة المقيم ومنسق الشؤون الإنسانية في الأرض الفلسطينية المحتلة المؤقت، إن بعض المواد الممنوعة من دخول غزة، ويعدّها الاحتلال أشياء يمكن استخدامها لأغراض أخرى منافية للعمل الإنساني، وأبرزها المضخات والمولدات وقطع الغيار وأنابيب الصرف الصحي وألواح الطاقة الشمسية وبعض المعدات الطبية. إلا أن القائمة تضمنت أيضًا مواد طبية لعلاج الأمراض المزمنة، مثل حقن إنسولين الأطفال، وسبب منعها لم يتمكن أحد من معرفته حتى الآن، ما يشي بخطر حظر أدوات أخرى ذات أهمية بالغة للناس في غزة.
أما عن المساعدات عبر الإنزال الجوي، قد يبدو الأمر إنسانيًا، إلا أنه بعيد تمامًا كونه يفتقد أدنى معايير السلامة البشرية، إذ إن الهدف في الأصل إغاثي وليس أن يُقتل الغزيون بالدهس تحت الشحنة الملقاة من الجو، كما حصل في جنوب القطاع بعد أن سقطت صناديق المساعدات وتعطلت المظلات، الأمر الذي خلف قتيلًا وبعض الإصابات.
قد تظهر دولة الاحتلال إنسانية جراء سماحها لبعض الدول بتقديم مساعدات لغزة، إلا أن المؤكد أن جيشًا يعمل بكل ما أوتيت آلته العسكرية من قوة على إبادة الغزيين لا يمكن أن يكون رحيمًا على الغزيين
الأمر الآخر أن هذه المساعدات تأتي عبر الجو بالتنسيق بطبيعة الحال مع قوات الاحتلال الإسرائيلي، وبالنتيجة فهي أيضًا مقيدة سواء بعدد الصناديق او بالمواد أو بالأماكن المحددة لإسقاطها. تحرم الإنزالات الجوية الغزيين فرصة المساواة في توزيع المساعدات، وتمنع عنهم الرقابة الداخلية، إن وجدت في ظل وجود أزمة أمن داخلي نتيجة الحرب، وتعزز الخلافات حول تقاسم المواد وتعمق المأساة لدى النازحين الذين لا تصلهم هذه الانزالات. هذه المساعدات الجوية العشوائية غير مفيدة فعلًا، إذ إنها إما تسقط في البحر وتنتفي عنها صفة الفائدة، أو أنها تسقط في المستوطنات الإسرائيلية نتيجة إما لخطأ بشري أو عرقلة جوية، أو أنها تتحطم نتيجة الارتطام الحاد بالأرض.
وتكمن مشكلة أخرى، وهي الكميات الصغيرة من المساعدات التي توفرها الصناديق عبر الجو. إذ إنه يمكن لشاحنة واحدة عبر المسار البري الأسلم لتلقي المساعدات أن تنقل ما بين 20 إلى 30 طنا من المساعدات، أي ما يعادل 10 أضعاف الكمية التي تحملها طائرة واحدة.
أما عبر البحر، فإتمام صفقة ميناء غزة، رصيف غزة البحري، من أساسيات استكمال تلقي المساعدات في القطاع، وتهدف مبادرتان للمساعدات البحرية إلى شحن المساعدات من قبرص، التي تقع على بعد حوالي 200 كيلومتر من غزة في شرق البحر الأبيض المتوسط.
المبادرة الأولى وهي طريق متعدد الجنسيات للسفن التجارية بين لارنكا في قبرص وغزة، وكانت من المقرر أن تبحر سفينة Open Arms التي تسيّرها منظمة وورلد سنترال كيتشن (World Central Kitchen) الإنسانية إلى غزة مرورًا بقبرص، ومحملة بـ 500 طن من المساعدات للقطاع، أي ما يعادل حوالي 25 شاحنة.
أما المبادرة البحرية الثانية، فيقودها الجيش الأمريكي الذي بدأ بوضع الأحجار الأولية لبناء رصيف عائم قبالة غزة لاستقبال شحنات أكبر بكثير. أبحرت سفينة دعم لوجستي تابعة للبحرية الأمريكية من فيرجينيا مع المعدات الأولى لبناء الرصيف في بداية آذار/مارس 2024. ويشارك أيضًا الاتحاد الأوروبي والإمارات العربية المتحدة والأمم المتحدة وقبرص في هذه المبادرة التي ستحتفظ إسرائيل بدور كبير فيها، إذ أنها ستنفذ آلية تفتيش صارمة في قبرص للمساعدات المتجهة إلى غزة.
قد تظهر دولة الاحتلال إنسانية جراء سماحها لبعض الدول بتقديم مساعدات لغزة، إلا أن المؤكد أن جيشًا يعمل بكل ما أوتيت آلته العسكرية من قوة على إبادة الغزيين لا يمكن أن يكون رحيمًا على الغزيين، كما الحال بالنسبة لدول تقفل الحدود أمام الغزيين أو يسيرون جسرًا بريًا نحو المستوطنات وفق اتفاقيات تجارية وأمنية.