لطالما عرفت التجارب الإنسانية الجمعية، بغض الطرف عن سياقها وطبيعتها، اهتمامًا أو انشغالًا بموقف "النخب" تجاهها وموقع هذه النخب منها. ينصب الاهتمام على تنوع طبيعة إنتاج النخب، اقتصادي، إعلامي، ثقافي وسياسي، بما ليس في الاهتمام من اعتراف بمن يقع موقفهم في حيز الاستقصاء بقدر ما هو انشغال بمفاعيل ونواتج الموقف، أي مساحات التأثير وشكل الأفعال التي يمكن أن تتولد من تلك المواقف المؤسس لها ضمنًا وفق مواقع أصحابها من السلطة والصراع الطبقي في آن.
لا يمكن الاعتقاد بأن السترات الصفراء بما هي عليه اليوم واقع نهائي، فهي حركة ما زالت في طور التشكل. كذلك خطابها ولغتها قيد التبلور، حتى سياقها الجغرافي أيضًا
بينما تعيش فرنسا انقضاء شهرها الأول على عوم فضاءاتها المدينية بأنهار انتفاضة "السترات الصفراء" المعيشية أساسًا. كانت نخبها السياسية والإعلامية، بل وبعض النقابية أيضًا، سباقة ومتسابقة في تقديم الإدانات الكبرى لحراك السترات الصفراء وناشطيها. حتى أن للمخيال مساحة من التأويل بأن الإدانات والتهم الملقاة على عاتق سمعة مناضلي السترات الصفراء مسبقة التنسيق والإعداد. خاصة أن حالة الوصم المتعالي ركزت، جمعيًا، على الركون إلى تهم الغباء والبدائية والرجعية والتخلف والجهل بحق من لم يفعلوا إلا أن حملوا مطالباتهم الحقوقية الأساسية المسكوت عنها تراكميًا إلى فضاء المواجهة العامة مع ماكرونية الجمهورية الخامسة.
اقرأ/ي أيضًا: انتفاضة "السترات الصفراء".. الهامش في مواجهة فرنسا المعولمة
لمساوئ مصادفات ظروف الكوكب، أن وجوه أصحاب السترات الصفراء وأجسادهم، ليست بالغريبة عربيًا. فهي ليست لأبناء الأكاديميات الغربية النظيفة ولا نجوم سينما "الترسو" الأمريكية بحلل ناصعة الياقات. إنما هي وجوه وحناجر شديدة الشبه، حد التماثل، مع تلك التي سبقتها إلى الشارع بضع سنوات جنوب المتوسط وشرقه، ولظروف تتقاطع وإن ليس بسطوع، حاملة الخبز والعدالة الاجتماعية همًا أوليًا، تلاهما ما تبلور لاحقًا من حديث عن الحرية والديمقراطية وسواهما. هذا ما يفترض، أقله أن يحفز الحواس الخمس ويستفزها لدى العثور على أي استعلاء نخبوي ووصم اختزالي يتعرض له أصحاب السترات الصفراء. الذين لهم أخوة في البصرة، حيث العراق المكبوت، هذه الأيام للمناسبة.
منذ البداية المبكرة لحراك السترات الصفراء الانتفاضي أقدمت مؤسسات إعلام الهيمنة الفرنسي، معه الأوروبي وحتى الروسي، على فتح منصاتها في تضاد واستعداء للسترات الصفراء. ولم يقصر "خبراء" إعلام النخبة وضيوفه السياسيين في توظيف الإدانات والاستهزاء رفقة الاستهانة والوصم متعدد الزوايا بحق المنتفضين لأجل قوت يومهم.
لم تتأت جزئيات حملة الوصم الكلية مصادفة، إنما هي حصيلة تجارب تراكمية في تجريم مطالبة الناس بعيش يستحقونه، أو ربما أفضل. لتحضر اصطلاحات من وزن "برابرة، أغبياء، حقراء، عديمي مسؤولية" وخلافه ضمن حفلة الوصم التي اعتادت الانتفاضات العربية 2011 على أشباهها عبر إعلام الاستبداد وإعلام التصفيق له.
أما العنف، والبربرية لزامًا، فحكاية وصم قائمة بذاتها تفصيلًا. إذ لم تقصر أبواق الوصم، سواء في الحالة العربية بالأمس واليوم، أو الحالة الفرنسية الآنية، في توظيف أيما ردة فعل، أو سلوك دخيل، كحرق مركبة أو تحطيم إشارة ضوئية وإغفال صورة عشرات ومئات الآلاف من المنتفضين المسالمين لصالح لقطة مركبة مشتعلة. ليبدو أن النهج الكانطي بشأن ميتافيزيقيا العلم انقلب معكوسًا في عرف الواصمين وغدا التجريب الضيق المجرد من السياق والمعزول عما استدعاه من عنف المؤسسة هو الاستدلال البرهاني للمبدأ القبلي لدى النخب الإعلامية والسياسية التي تستعدي الناس في خبزهم حتى.
الأنكى في عرف الوصم بالعنف والبربرية على جبين كل تمرد اجتماعي أو انتفاضة معيشية، خوفًا من تبلورها السياسي، أنه يراد للوعي الجمعي تقبل العنف الذي طالما مورس عبر المؤسسة/النظام. بل قبول التواطؤ الإعلامي مع واقع تدمير حياة آلاف الناس بالبؤس والجوع والقهر الاجتماعي والسياسي ونبذ إحراق مشهدي لمركبة أو دكان تجاري على أنه "العنف"!. حتى يتصاعد الشك حدود التأكيد أن أحدهم لم يختبر الجوع، بمنطق تأخر موعد الوجبة المعتاد لا العوز، يومًا، فابتدع المقاربة الغرائبية، القائلة أن كتابة شعار مطلبي على نصب تذكاري أو إحراق مركبة في ردة فعل على العنف البوليسي عنف، وكل ما تمارسه سلطة المال والسياسية بحق الناس ليس عنفًا.
كما امتعض من يشددون على تبيان انحدارهم من المنستير، ويغالون في توددهم من "حداثة" قرطاج الدكتاتور المخلوع زين العابدين بن علي، من "بربرية" وجنون مشهد حرق شهيد الانتفاضات العربية المرحوم محمد البوعزيزي جسده/السلاح الأخير، ولم ينغص هدأتهم الجوع الذي قاده إلى تبني فعل الحرق ذلك موقفًا. في حين سبقهم إلى امتعاض شبيه بعض "سادة وشيوخ" أشرفية بيروت من قرقعة بساطير الحركة الوطنية اللبنانية ومقاتلي منظمة التحرير في بيروت السبعينيات، بينما لم تعكر صفو أمسياتهم ملالات جند مناحيم بيغن بقيادة آرييل شارون مطلع الثمانينات. يخرج في فرنسا اليوم من تسوؤه خربشات الانتفاضة على المعالم الباريسية، بادعاء الحرص على جمالية الرموز الوطنية ليحول النقاش إلى مساحة التجسيد الفيزيائي للرمز الوطني لا إلى السياق الذي أنتجه، أو حتى الغائية المتعلقة بذلك السياق.
وكما لم يستطع رفاق البوعزيزي في الأمصار العربية التي تبعته منتفضة تفادي رشقهم بتهمة الإرهاب والتبعية الأجنبية، بألسنة إعلام أنظمة أتقنت الإرهاب قدر إتقانها التبعية الأجنبية والانقياد لشهوات قناصلها. لم تتمكن انتفاضة السترات الصفراء حتى الآن النجاة من مطر الاتهام بالعنصرية ورهاب المثليين والتخريب العشوائي، بل وللسخرية معاداة الأجانب/اللاجئين. إذ بعفوية أي مقطع مصور من أي وكالة أنباء حضرت الحدث الباريسي يمكن تفقد مستوى حضور الوجوه العربية الفرنسية في الموجة الانتفاضية الحالية.
اقرأ/ي أيضًا: "السترات الصفراء".. مستمرة في فرنسا مستعدة في أوروبا
إذًا، كيف تنظر السلطة المهيمنة ورأس المال المهيمن إلى بقية الناس، أي الطبقات الاجتماعية التي يصنف السواد الأعظم من الناس ضمنها؟ ربما يكون لشغل بيير بورديو بشأن "التشيؤ" ضرورة في محاولة الإجابة هنا، حتى لو استدعت افتراض النظر بعين سلطة رأس المال.
تتعاطى نخب السلطة المهيمنة مع الناس كونهم أشياء يشكل الخطاب مفتاح التلاعب بها وتحريكها كما قطع الأثاث أو بيادق الشطرنج. ففي يوم استجلابهم لصندوق الاقتراع "الديمقراطي" يصبحون ملح الأرض ورعاة المجتمع وعماده، أما في يوم وقوفهم في وجه السلطة وبرامجها، فيسهل جدًا، على نخب السلطة، نعتهم بما سبق التطرق إليه من حالات وصم، عربية وفرنسية، بل وأفدح. والاشتهاء السلطوي واضح في هذه الحالة حدود الفضيحة، كل ما هو مطلوب "كائنات خانعة". بكلام آخر، لا يفترض بخطاب الناس/الأغلبية/ الجمهور الفقير وغير الفقير من الطبقات غير المهيمنة أن يظهر إلى العلن، أو يشكل حالة عامة. فالمساحة الوحيدة المتاحة مكرسة لسردية السلطة.
الدرس الكبير الذي تعيد السترات الصفراء استعراضه، بأن عالمًا آخر ممكن، وأن ممكنات التمرد الاجتماعي النابت من الجوع والرهان عليه أوسع حدودًا من تلك التي للتثوير السياسي
ما يفترض أن تلخصه الحفريات في ألاعيب السلطة، إدراك أنه عندما تتقدم سلطة الاستبداد، سواء السياسي أو البنكي، وإعلامها لانتقاد بربرية، عنف، إرهاب، تبعية، رهاب مثلية أو رهاب لاجئين كتلة اجتماعية تعبر عن ذاتها بحركة اجتماعية احتجاجية، كما شهد عرب 2011 وفرنسا السترات الصفراء، فإن عين السلطة ليست على تمثيلات تلك الاصطلاحات في الواقع ومشهديتها، حتى لو صدقت لناحية حقيقة واقعها، وهي ليست صادقة. إنما تكون السلطة بصدد القول للناس "اخرسوا" من وراء حجاب.
لا يمكن الاعتقاد بأن السترات الصفراء بما هي عليه اليوم واقع نهائي، فهي حركة ما زالت في طور التشكل. كذلك خطابها ولغتها قيد التبلور. كذلك سياقها الجغرافي سيتمدد أوروبيًا وعالميًا. لكن الدرس الكبير الذي تعيد انتفاضة السترات الصفراء استعراضه على العالم، بأن ثمة عالمًا آخر ممكن. كما تقول أن عقم التأويلات النسخية لا يفيد أي حراك سواء في فهمه أو تطويره. فأدوات الاحتجاج ومسبباته اليوم ليست هي ذاتها التي كانت لانتفاضات 1968. كما هي أدوات السلطة وخطابها ليسا كما هما. فالفارق شاسع بين القول أن الفرنسي جائع بسبب اللاجئ أو المثلي وتحفيز غضبه تجاههما كما يريد ستيف بانون ورجالاته في أوروبا ليصب الناخب غضبه لهم لا عليهم. وبين أن يتم القول أن الفرنسي جائع بسبب إيمانويل ماكرون وبرنامج إدوراد فيليب وأنه جائع مثله مثل الأوروبي بسبب السياسات الاقتصادية والاجتماعية الخاطئة والمشوهة في منطلقاتها والتي تفرض عليه ويجبر على أن يعتبرها حلولًا لمشاكله، بذات المنطق الذي يسوقه أهل نفخ الروح في الفاشية الأوروبية وتصعيدها. ليمسي العالم، وليست فرنسا وحدها، أمام مصفوفة بوليمية وليست بوليتكية بمعنى سياسية باستعارة فيسلوف الماوية الفرنسية، وصاحب نسخته الفريدة من الكانطية، آلان باديو. وأمام حالات شبيهة لا بد من العرفان لإشراق التمرد الاجتماعي النابت من الجوع، فممكناته والرهان عليه يكون أوسع حدودًا من تلك التي للتثوير السياسي.
اقرأ/ي أيضًا: