كلما أراد أحدهم الاحتفال بمدينة معاصرة، يعمد إلى تصوير رواد مقاهيها ومطاعمها وملاهيها، التي تعج بالنساء الجميلات والرشيقات والرجال منحوتي الأجسام. والجمال الذي نتحدث عنه يمكن تعريفه بصفة أخرى هي الشباب. العبرة ليست في سن المرء أو المرأة، بل في تناسق الجسم بحيث يصبح مثاليا للتصوير. ذلك أن الصورة التي يعرّفها رولان بارت بعبارة "تأبيد لحظة هاربة" لا تتأبد بالمعنى الزمني الممتد، بل إن زمنها متنوع بمقدار ما يشاهدها مشاهدون عابرون. أي أن زمن مشاهدة الصورة والتملي فيها لكل فرد هو زمن قصير، قصر اللحظة الهاربة، لكن استطالته تتأتى من مجموع اللحظات التي أنفقها مشاهدون كثر على صورة واحدة.
يكون الجسم المعاصر في المدن الحديثة جسمًا غير مستعمل بصرف النظر عن تاريخ مولد صاحبه أو صاحبته
هكذا يكون الجسم مثاليًا للتصوير حين لا تثير منحنياته وتفاصيله الرغبة بالتخمين والظن. فالمرأة التي اختبر جسمها ظروف العيش وصروفه هي امرأة تملك جسمًا شخصيًا لا يمكن تكراره، بمعنى أن رغباتها ومزاجها صنعا لجسمها شكلًا مميزًا يمكن تتبع آثار هذه الرغبات عليه، والحال نفسه ينطبق على الرجل. لكن الرغبات وحدها ليست ما يصنع الجسم المستعمل. ثمة، أيضًا وأساسًا، ندرة الوقت الفائض للعناية بالجسم أو برغباته على حد سواء. بل إن الإنسان المعاصر حين يكون وقته الفائض ضيقًا، ويتم تخييره بين الاعتناء بشكل جسمه أو بتلبية رغباته فهو غالبًا ما يختار العناية بشكل الجسم ويطرد الرغبات إلى الهامش وقد يبقيها فيه إلى الأبد.
اقرأ/ي أيضًا: شيرين نشأت وأزمة الجسد الإيراني
على هذا يكون الجسم المعاصر في المدن الحديثة جسمًا غير مستعمل بصرف النظر عن تاريخ مولد صاحبه أو صاحبته. ذلك أن تلبية الرغبات تفسد الجسم تمامًا، مثلما يفسده الإهمال. وعليه يجدر بالإنسان المعاصر أن ينفق جل وقت فراغه في تمرين جسمه ليجعله قابلًا للتصوير بوصفه جسمًا غرًا غير مستعمل. وكلما تقدم المرء في السن كلما احتاج الجسم وقتا أطول للعناية به وتمرينه. إلى حد أن المرء، ومع تقدمه في السن، لا يعود وقته متسعًا لأكثر من ممارسة الرياضة التي من شأنها أن تبقي جسمه قيد الصورة العابرة.
الأجسام المعاصرة في المدن الحديثة هي أجسام تريد الإيحاء بأنها طاردة لرغباتها، وأكثر تلك الرغبات نبذًا هي الرغبة بتناول أطايب الأطعمة وصنوفها المختلفة
اقرأ/ي أيضًا: الجسد والعمارة.. سجن الأنثى واستلاب الحرية
الأجسام المعاصرة في المدن الحديثة هي أجسام تريد الإيحاء بأنها طاردة لرغباتها، وأكثر تلك الرغبات نبذًا هي الرغبة بتناول أطايب الأطعمة وصنوفها المختلفة. هكذا بات شائعًا أن يلتقي عاشقان في مطعم على ناصية شارع في مدينة كبرى، وأن لا يتناولا من الطعام إلا أقله. كما لو أن الهدف من اللقاء في مطعم لا يتعدى الاستعداد للتموضع من أجل الصورة. بما يخرج المطعم من وظيفته الأصلية التي هي إرضاء البطن، ويجعله مسرحًا للتصوير. وهذا التحول في وظيفة المطاعم يفسر الحرب على مطاعم الوجبات السريعة التي تجتاح العالم من أقصاه إلى أقصاه. ذلك أن مثل هذه المطاعم لا تملك ترف تغيير وظيفتها الأساسية المتعلقة بإرضاء البطن. وحيث أن كثيرين من سكان المدن لا يملكون اليوم ترف إنفاق أوقاتهم في مطاعم مزينة ومزخرفة تشبه متاحف صغيرة، فضلًا عن كونهم لا يملكون ترف أنفاق مزيد من الوقت في تحضير أجسامهم للصورة. فإن التقسيم الطبقي، وربما العنصري، الذي تعرفه مدن العالم اليوم هو ذاك الذي يقسم الناس فئتين: فئة الذين تظهر صورهم في الملصقات السياحية والدعائية، والذين يملكون كل الوقت اللازم لنحت أجسامهم. وفئة الذين يظهرون في صور التحقيقات الصحافية التي تلاحق الأزمات. ويكفي أن تظهر صور هؤلاء في تحقيق صحافي أو برنامج تلفزيوني حتى يدرك المشاهد أن هؤلاء هم من تخلف عن ركب المعاصرة المسالمة والمهذبة، وأن بعض صفاتهم التي اكتسبوها جراء هذا التخلف تتصل بالعنف اليومي والجريمة والخروج على القانون.
اقرأ/ي أيضًا: