هذه قصة جميلة عن الاقتصاد، وأجمل ما فيها أن كاتبها يدرك التناقض الذي تنطوي عليه العبارة إذ تجمع كلمتين متنافرتين: "جميلة" و"اقتصاد"، ولذا فهو يسارع إلى إزالة اللبس، مؤكدًا أن الاقتصاد، أصلًا، هو نشاط حياتي نمارسه جميعًا، ونتخذ بشأنه قرارتنا اليومية.. إنه ابن الواقع، جزء أساسي من نسيج حياتنا المعاشة، أما "علم الاقتصاد" المسلح بترسانة من المعادلات والنظريات والنماذج الرياضية، والمترع برطانة الخبراء الجافة والعويصة، فهو أمر مختلف، إنه مجرد أيديولوجيا لا تفسر شيئًا ولا تشرح شيئًا في الواقع، بل لها أغراض أخرى يعرضها الكاتب في سياق قصته.
إن الاقتصاد شأن أهم وأخطر من أن يترك بين أيدي الخبراء، وأن على كل منا أن يفهم ويهتم ويتصدى لاتخاذ القرار
اقرأ/ي أيضًا: هل من تقدم حقيقي في التاريخ البشري؟
في تسعة أيام فقط، أنجز يانيس فاروفاكيس كتابه هذا: "الاقتصاد كما أشرحه لابنتي"، (ترجمة عماد شيحة، دار الساقي ط 2020)، كتبه دفعة واحدة وكأنه يبدع قصة قصيرة أدبية، أو يخط رسالة غرامية، بلا هوامش ولا إحالات إلى مراجع أو مصادر، وبلا توقف عند النظريات والمحاجات الاختصاصية. لقد أراد أن يشرح الاقتصاد لابنته بأبسط طريقة ممكنة، وأن يقول لها، ولنا، إن الاقتصاد شأن أهم وأخطر من أن يترك بين أيدي الخبراء، وأن على كل منا أن يفهم ويهتم ويتصدى لاتخاذ القرار، وإلا فإن الأزمات سوف تستمر وتتفاقم وسيكون ثمنها غاليًا جدًا، ذلك أن حياتنا ذاتها هي التي على المحك.
يقول فاروفاكيس إن الكهنة ورجال الدين كانوا يلعبون دورًا هامًا في شرعنة الاختلال الاجتماعي الكبير القائم على تفاوت الثروة، إذ ثابروا على تصوير الأمر وكأنه نتاج أصيل للطبيعة، قدر محتوم صاغته السماء، وليس من خيار حكيم إزاءه إلا الرضا والتسليم. ولكن في القرون الثلاثة الأخيرة تراجع الدين وانحسر تأثيره، وبالتالي لم يعد قادرًا على أن يكون الأيديولوجيا التبريرية الناجحة التي كانها، فاستبدلته الطبقات المسيطرة المستفيدة بأيديولوجيا جديدة: "علم الاقتصاد". يحذر المؤلف ابنته من الكهنة الجدد (علماء الاقتصاد)، ويؤكد لها أنها لن تفهم منهم شيئًا، فنظرياتهم ومعادلاتهم ما هي إلا تلك الترنيمات والشعوذات الكهنوتية القديمة التي يقصد بها أن تموه وتسوغ لا أن تشرح وتفسر. إنهم صنفان: واحد ذكي يستعير من الرياضيات صياغات معقدة تنجح في إضفاء صفة العلمية على اختصاصه، علمًا أن لا صلة لها بالواقع، وآخر أقل ذكاء يكتفي بلعب دور المحلل الاقتصادي فيملأ الصحف والشاشات بالتنبؤات والأحكام الجاهزة، مستندًا إلى صيغ أساتذته "العلمية" التي لا يفهم شيئًا منها، والأدهى أنه يبدو غير مكترث بأنه لا يفهم!
يتذكر الكاتب أن ابنته سألته مرة عن "سر كل هذا القدر من اللا مساواة في العالم". يومها أجابها بطريقة أكاديمية شوّشتها أكثر وزادت المسألة غموضًا في عقلها الطري. والآن، في زمن تأليف الكتاب، يقرر أن يشرح لها مجددًا، ولكن بطريقة مختلفة، فيسرد لها قصة شيقة، قصة البشرية منذ ذلك اليوم الذي كان فيه أسلافنا صيادين وجامعي ثمار في الغابات والسهوب، إلى يومنا هذا حيث تستطيع ابنته، بمجرد كبسة زر، أن تشتري ما تشاء من "أمازون". وفي سياق القصة ثمة العديد من اللحظات والمحطات والمفاصل الأساسية: الثورة الزراعية وما أعقبها من نشوء الفائض والدَين والنقود ونواة الحكومة والكهنوت.. والثورة الصناعية وما أعقبها من نشوء المصانع الحديثة وظاهرة العمال الأحرار، والبرجوازية، الأسواق الحديثة.. وثمة شرح مبسط للكيفية التي انتقلنا بها من "مجتمعات ذات أسواق" إلى "مجتمعات الأسواق".. كيف كان السوق جزءًا هامشيًا من المجتمع وصار الآن هو كل المجتمع.. كيف كانت البضائع، التي تباع وتشترى وتقدر قيمتها بالنقود، قليلة قياسًا بأشياء العالم، وإذا بكل أشياء العالم تغدو اليوم بضائع تثمن بالنقود. مسيرة طويلة وغريبة توجت بتسليع كل شيء. وعلى هوامش هذه السيرة هناك الكثير من المقبوسات الأدبية (هوميروس وفيرجيل وأوفيد..)، والكثير من الإشارات إلى أفلام سينمائية.. وخلف ذلك ثمة رؤية للحياة أكثر اتساعًا من حدود الاختصاص الضيقة، وثمة ثقافة تتجاوز التقسيمات الصارمة والساذجة للحقول المعرفية المختلفة.
كانت البضائع، التي تباع وتشترى وتقدر قيمتها بالنقود، قليلة قياسًا بأشياء العالم، وإذا بكل أشياء العالم تغدو اليوم بضائع تثمن بالنقود
اقرأ/ي أيضًا: القهوة، الثقافة، الثورة
يانيس فاروفاكيس (مواليد 1961) اقتصادي يوناني يحمل الجنسية الأسترالية، درّس في جامعات أوربية عديدة، وفي كانون الثاني / يناير من العام 2015 شغل منصب وزير مالية اليونان، لكنه سرعان ما استقال من المنصب في شهر تموز / يوليو من العام نفسه، بعد يوم من الاستفتاء الذي جاءت نتيجته ضد مقترحات التقشف التي قدمها الدائنون للحكومة اليونانية، والتي كان فاروفاكيس يعارضها أيضًا.
اقرأ/ي أيضًا:
العالم المضاء الذي لا يريد استغلالنا
كتاب "دم الأخوين".. قراءة في وظائف العنف وطقوسه في الحروب الأهلية