صدر عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" كتاب "القدرة التنافسية للأعمال والازدهار الاقتصادي المستدام في البلدان العربية"، لأحمد فتحي عبد المجيد قاسم. يتألف الكتاب من 376 صفحة، ويشتمل على ببليوغرافية وفهرس عام.
يعدّ مفهوم "القدرة التنافسية" من المفاهيم المربِكة التي يكتنفها نوع من الضبابية لأنه يُعَدّ مفهومًا متداخلًا بين التحليلات الاقتصادية الجزئية (تحليلات المنشأة) والتحليلات الاقتصادية الكلية
واجه الاقتصاد العالمي حزمة من التحديات والأزمات السياسية والاقتصادية المتعاقبة، تبلورت في اتجاه عدم اليقين في الأسواق العالمية وتباطؤ النمو الاقتصادي، فضلًا عن التأثيرات الاجتماعية والتشوهات الحاصلة في نوعية المؤسسات السياسية والسياسات الاقتصادية، وتأثير ذلك كله في إضعاف القدرة التنافسية والازدهار الاقتصادي المتحقق في الاقتصادات النامية (العربية) بصفة خاصة.
وقد تطلّب هذا الأمر من صناع القرار ورجال الأعمال والاقتصاد إدارة هذه التحديات، وتحسين صياغة السياسات الاقتصادية والإصلاحات الهيكلية والمؤسسية وتعزيز الإنتاجية والقدرة التنافسية واستدامتها، ولا سيما أن الهدف الرئيس للقدرة التنافسية يتمثل في تحقيق النمو والتنمية الاقتصادية المستدامة بصفته شرطًا لخفض الفقر وتحسين مستويات المعيشة والرفاه الاقتصادي.
مفاهيم القدرة التنافسية
يعدّ مفهوم القدرة التنافسية Competitiveness من المفاهيم المربِكة التي يكتنفها نوع من الضبابية؛ لأنه يُعَدّ مفهومًا متداخلًا بين التحليلات الاقتصادية الجزئية (تحليلات المنشأة) والتحليلات الاقتصادية الكلية. واستعمال هذا المصطلح مع مفاهيم أخرى، مثل "الإنتاجية" و"الابتكار" و"حصة السوق"، في ظل تداخل المؤشرات والمتغيرات المفسرة للقدرة التنافسية وتنوعها، أضفى على مفهوم القدرة التنافسية تعريفات عديدة عكست النظريات الاقتصادية والبحوث والأدبيات والمفاهيم المتعلقة بالقدرة التنافسية. وهو ما جعل مسألة تحديد تعريف شامل ومحدد للقدرة التنافسية تلاقي نوعًا من الصعوبة والتعقيد، ولا سيما أن العديد من الكتّاب عدّوا القدرة التنافسية نظرية متعددة الأبعاد وذات مستويات مختلفة، بين القومية والإقليمية والمحلية والصناعية والقطاعية، فضلًا عن الشركات أو المنشآت.
ينطلق نشوء مفهوم القدرة التنافسية وتطوره من عرض الخلفية الأدبية للنظريات الكلاسيكية والنيوكلاسيكية والكينزية، ونظريات اقتصاديات التنمية، ونظريات النمو الحديثة في تحديد الإطار العام لهذا المفهوم. ففي حين يركز المنهج الكلاسيكي على القدرة التنافسية على المستوى الكلي (الدولي والإقليمي والقطري)، يركز المنهج النيوكلاسيكي على هذا المفهوم في إطار الاقتصاد الجزئي.
ولا يزال مصطلح القدرة التنافسية يواجه المشكلات من ناحية المفهوم والقياس؛ إذ لا نجد تعريفًا شاملًا ودقيقًا لهذا المفهوم، فضلًا عن المشكلات البحثية الأخرى المتعلقة بالتفاوت الكبير في محددات القدرة التنافسية بحسب الزمان والمكان. لذلك، فإن هناك حاجة إلى تعريف شامل للقدرة التنافسية، ليتسنّى قياس الموقف التنافسي للمنظمة على النحو الذي يسمح بمقارنة موقفها التنافسي ضد منافسيها، وإلا فإنه من الخطورة القصوى بناء استراتيجيا مؤسسية (على المستوى الجزئي) وسياسة اقتصادية كلية، في إطار مفهوم غير متبلور وقابل للتأويل.
محددات القدرة التنافسية
إن تحقيق مستوى متقدم من القدرة التنافسية للشركة يتطلب استخدام المصادر المتعددة للتنافسية، وإنشاء استراتيجيا وتطبيق إجراءاتها بتسلسل، وتحديد آلية التعامل مع المنافسين، وتحديد التأثيرات الإيجابية والسلبية للظواهر الخارجية التي أنشأتها البيئة الكلية وبيئة السوق، فضلًا عن تحديد قدرات الشركة وإمكاناتها الداخلية على التكيف مع تلك البيئات، وتأثيرها في فاعلية أداء الشركات في السوق، وتحديد الموارد والقدرات التنافسية للشركات (تحليل نقاط القوة والضعف والفرص والتهديدات Strengths, Weaknesses Opportunities, and Threats/SWOT/analysis)، من خلال اختيار الاستراتيجيا القائمة على تحديد نقاط القوة للشركة والاستفادة من الفرص، وعدم استخدام الموارد والقدرات غير التنافسية (نقاط ضعف) وتجنب المخاطر التي تظهر في بيئتها. ثمة نهجان أساسيان تجاه الصياغة الاستراتيجية للمنافسة.
تتطلب التأثيرات الإيجابية في الإنتاجية الوطنية والتحسينات الاقتصادية، تحسين مجموعة العوامل المترابطة، وعدم الاكتفاء في التأثير بعنصر واحد أو عنصرين من العوامل المؤثرة في الإنتاجية
يتمثل الأول في نهج موجَّه إلى الصناعة (من الخارج إلى داخل الشركة)، يفترض أن استراتيجية الشركة قائمة على تحليل البيئة وقدرتها على المنافسة بفاعلية، والتعديل المستمر نتيجة للتغيرات البيئية، من خلال قيام الشركة بتشكيل مجموعة واسعة من الاحتمالات لتكوين مواردها مع المتطلبات الناتجة من التغييرات التي تحدث في البيئة.
أما النهج الثاني، فهو موجه نحو الموارد (من الداخل إلى بيئة الشركة)، وهو يفترض أن تحليل الموارد وقدرات الشركة نقطة انطلاق وأساس لاختيار عمليات تصميم استراتيجيا التنمية والمنافسة للشركة، ولا سيما أن هذه المناهج المذكورة لتشكيل القدرة التنافسية للشركة (وغيرها من التصورات الأخيرة للقدرة التنافسية)، ترافقها مجموعتان من العوامل التي تحدد قدرة الشركة على المنافسة الفاعلة في السوق: تتمثل الأولى في العوامل الخارجية بعدّها مصدرًا رئيسًا للقدرة التنافسية للشركة، والتي تمثل علاقة التفاعل بين الشركة وبيئتها (هذه العوامل يجب أن تعامَل على أنها مجموعة محددة من الوظائف الخارجية لأداء الشركة تحدد قدراتها على التنافس الفعال)، ولا سيما أن هذه العوامل خارجة عن سيطرة الشركة وتتطلب التكيف المرن مع ظروف العمل المتغيرة؛ وتتمثل الثانية في العوامل الداخلية، أي الموارد الموجودة تحت تصرف الشركة وطرائق استخدامها لرسم استراتيجيا مثالية لتحقيق النجاح.
لذا وجب أن نفهم أن "التقدم التقني" يمثل قوة رئيسة تزيد من وتيرة التغييرات التي تحدث في الشركة، من حيث التكييفات الكمية والسعرية، وجودة السلع المعروضة ومستوى الخدمات المقدمة، وتحديد مستوى قدرتها التنافسية، ولا سيما أن تقنية المعلومات أثرت تأثيرًا بالغًا في أساليب المنافسة وطرائقها، لتصبح قوة إبداعية رئيسة للتغيرات في الاقتصاد العالمي ومؤسساته.
القدرة التنافسية والازدهار الاقتصادي العربي
إن الازدهار الاقتصادي يتحدد بمستوى الإنتاجية المتحققة في الاقتصاد القومي؛ حيث تقاس الإنتاجية بقيمة السلع والخدمات المنتجة لكل وحدة من الموارد الطبيعية والرأسمالية والبشرية في الاقتصاد. على هذا الأساس، فإن مستوى الإنتاجية يمكن أن يتحدد استنادًا إلى بعدين رئيسين، يتمثل الأول في مستوى الأسعار في الأسواق المفتوحة Open Markets Prices التي تستند إليها قيم السلع والخدمات المنتجة، ويتمثل الثاني في الكفاءة Efficiency، التي يمكن أن تنتج بها السلع في إطار الموارد الاقتصادية المستخدمة في إنتاجها.
لا يزال مصطلح القدرة التنافسية يواجه المشكلات من ناحية المفهوم والقياس؛ إذ لا نجد تعريفًا شاملًا ودقيقًا لهذا المفهوم
كانت الإنتاجية، وفي النهاية الازدهار الاقتصادي، مثار نقاش النظريات الاقتصادية؛ إذ ركزت على دور تراكم رأس المال والمعرفة في النمو الاقتصادي، في حين أثبتت بعض الدراسات الأكاديمية والتجريبية أن الإنتاجية الكلية تتحدد بعوامل تتمثل في جودة المؤسسات العامة والانفتاح التجاري والاستثمار (المحلي والأجنبي) والموقع الجغرافي وجودة البنية التحتية المادية وتطور السوق المالية ونوعية بيئة العمل ومهارة العاملين والعوامل التاريخية (الأمة الاستعمارية)Nation’s Colonial ، وغيرها من العوامل التي قد يكون لبعضها تأثيرات مباشرة في الإنتاجية، وما يمارسه القطاع الخاص والمؤسسات الأكاديمية والمؤسسات الأخرى في هذا الإطار، بينما يمارس البعض الآخر تأثيرات غير مباشرة في الإنتاجية؛ بسبب اختلاف آليات التأثير الناتجة من السياسات الحكومية والأوضاع العامة للحكومات الوطنية.
بناء عليه، فإن التأثيرات الإيجابية في الإنتاجية الوطنية والتحسينات الاقتصادية تتطلب تحسين مجموعة العوامل المترابطة، وعدم الاكتفاء في التأثير بعنصر واحد أو عنصرين من العوامل المؤثرة في الإنتاجية. لذلك، عزلِت بعض العوامل التي تعدّ أكثر كفاءة في تحقيق مستوى الإنتاجية والازدهار في البلدان العربية، والتي ستمثل مؤشرات أساسية لفهم نقاط القوة والضعف في تأثيراتها الاقتصادية، ولتمثل أدوات رئيسة لصنّاع السياسة الاقتصادية في اتخاذ القرارات الاقتصادية السليمة في هذه البلدان، من خلال تحليل الكتل البنيوية الأساسية التي تمارس تأثيراتها في الإنتاجية والازدهار الاقتصادي، والتي تتمثل أولًا، في الهبات Endowments؛ ثانيًا، في القدرة التنافسية للاقتصاد الجزئي Microeconomic Competitiveness؛ ثالثًا، في القدرة التنافسية للاقتصاد الكلي Macroeconomic Competitiveness.