هناك موجة جديدة من الأعمال الأدبية المعاصرة تُحدّد معالمها في خلق لغة خاصّة بالطفل، نظرًا لاتّساع الهوّة بين عالم الطفل والإبداع الحقيقي، وكلّ ما يساهم في صقل شخصيته. والمراقب لتطوّرات الساحة الثقافية العربية يدرك أنّ أدب الطفل أصبح أحد شواغل الكاتب المعاصر، ويظهر ذلك جليًا من خلال اتّجاه البعض إلى الكتابة للأطفال. بالإضافة إلى المشاريع والمبادرات التي تطلقها بعض الجهات المتخصّصة بهدف ردم الهوّة بين الكتاب والطفل، ساعيةً كذلك إلى غرس بذرة القراءة في نفوس الأطفال، باعتبارهم مستقبل المجتمع الواعد.
يرى كثيرون أن عصر أدب الطفل العالمي انطلق مع صدور كتاب "أليس في بلاد العجائب" لمؤلفه لويس كارول
وإذا ما ألقينا نظرة فاحصة على ماهية أدب الطفل، نجد أنّه يخضع لمعايير مستحدثة لجهة تعريفه. فلم يعد مجرّد نوعٍ من أنواع الفن الأدبي، بل تجاوز ذلك ليُعدّ أداةً تعليمية وتربوية يواكب المناهج الدراسية، بل يرتقي بالطفل إلى مستوياتٍ أفضل. ويُعرّفه البعض بأنّه أحد الأنواع الأدبية المتجدّدة، ويتّصف بالقيمة والإثارة، ويعكس الحياة الخارجية للطفل، ويُكتب بأسلوب بسيط ولغة يفهمها الأطفال.
اقرأ/ي أيضًا: حين قاربت روايات سنان أنطون العراق بوصفه منفى
يُعرّف الدكتور هادي نعمان الهيتي أدب الطفل بأنّه "عرض للحياة من خلال تصوير وتعبير متميّزين". أمّا محمود رشدي خاطر، فيقول إنّه "كلّ ما يقدّم للأطفال من مادّة مكتوبة، سواءً كانت كتبًا أم مجلّات. وسواءً كامن قصصًا أم تمثيليات أم مادّة إعلامية". من جهته، يُعرّف فريد جبرائيل نجّار أدب الأطفال بأنّه "الكتب المعدّة للأطفال، ومطالعاتهم التي يعدّها خبراء في أدب الأطفال، تمتاز بجودة مادّتها وأسلوبها، وملائمتها لذوق الأطفال ومستوى نضجهم". ولنا هنا الحق في أن نتساءل عن خصائص هذا الأدب، وكيف لها أن تُراعي اختلافه عن سائر الآداب الأخرى، نظرًا لأهميته، واعتباره وسيطًا تربويًا قبل كل شيء.
لقد صرّح البعض أنّ الطور الذهبي لأدب الطفل العالمي انطلق مع صدور كتاب "أليس في بلاد العجائب"، لمؤلفه لويس كارول. في المقابل، تأخّر أدب الطفل العربيّ بالظهور، رغم ثراء هذا الأدب ككل. حيث لم يتبلور في أدبنا العربيّ الحديث إلّا في العقود الأربعة الأخيرة من القرن العشرين، إذ برزت جلّ الإرهاصات الأولى لهذا اللون الأدبيّ في القرن الحالي، وكان اختزالًا للثقافات والمفاهيم والقيم والطموحات المستقبلية.
ويذكر الدكتور فاضل الكعبي الباحث المتخصّص في أدب وثقافة الأطفال أنّ "النظرة الدونية إلى أدب الطفل وعناصر ثقافته الخاصّة، أدّى بالنتيجة إلى فقر الساحة الثقافية الإبداعية والأدبية الحقيقة في شخصية الطفل". فالبعض ينظر إلى الكتابة للأطفال على أنّها نوع من العبث الكتابي الذي لا يجدي نفعًا. وفي كلّ الحالات، لا يشغل هذا الأدب مساحة مهمّة في حياة الأطفال الفكرية والثقافية. والنتيجة كانت ازدراء هذا الأدب. هكذا يمكن تفسير غياب أدب الأطفال عن تلك الحقبة.
يرى الباحثون أنّ هناك تحدّيات عديدة تواجه كتّاب أدب الأطفال ممن يعملون على دحض الانتقادات التي أرادت إقصاء أدب الطفل، والتقليل من أهميته كنوع أدبي غاية في الأهمية، وتجاهل دوره في تنمية مهارات القراءة والكتابة عند الطفل، ويزوده بثروة لغوية فصيحة، تزيد من خبرته الخاصّة، وتنمو مع عمره. لذلك، وجب مراعاة الألفاظ الموجّهة للطفل كما لليافعين. وأيضًا، الاهتمام بطرح الأفكار تماشيًا مع قدرة استيعابه وإدراكه.
شدّدت الأبحاث العلمية على أهمية القراءة في السنين الأولى من عمر الطفل لما ينتجُ عنها من تشابكٍ عصبيّ وتطويرٍ للخلايا الدماغية
ومن هنا، بدأت بعض الاسماء تختصّ في هذا المجال لصنع رؤية واضحة تؤهّل وتساعد الطفل، وذلك من خلال أعمال متنوّعة تُعالج العديد من القضايا، منها العلمية ومنها الفكرية والترفيهية والتوعوية. هكذا ظهرت القصّة القصيرة الموجّهة للناشئة، وروايات اليافعين، ومجلّات الأطفال، كمجلة ماجد، والعربيّ الصغير، وعرفان، وباسم، وبراعم، بنات وأولاد، وفلّة...الخ.
اقرأ/ي أيضًا: نهاية الشعر العربي
واعتبر المصريّ يعقوب الشاروني واحدًا من أهم كتّاب الأطفال. وقد فاز بالعديد من الجوائز والتكريمات، وترك مساحة كبيرة من الاهتمام في نفوس الأطفال، وعقول دارسي أدب الطفل. وأصدر كذلك مئات الأعمال، خصوصًا في مجال الرواية الموجّهة للشاب الصغير، مثل رواية "ليلة النار" و"ثورة الأمّهات في بيت الأسد". ناهيك عن الكاتب اللبنانيّ طارق البكري الذي يُدير عددٍ من الصحف والمجلّات الموجّهة للصغار داخل الوطن العربيّ وخارجه. قدّم أكثر من 500 قصة، تُرجم بعضها إلى عدّة لغات. وفي رصيده 20 رواية للناشئة واليافعين.
ومن الجدير أن نذكر أسماء أخرى برزت في هذا المجال، كالشاعر والروائي التونسيّ حافظ محفوظ، وهو رئيس تحرير مجلّة "عرفان"، وقد سبق وأن نال عدّة جوائز، منها جائزة "معرض تونس الدولي للكتاب، 2018" عن مجموعته القصصية "حكايات القمر". ومن الأردن برز اسم الكاتب والشاعر محمد جمال عمرو الذي يشغل منصب مدير تجرير مجلّة "براعم عمّان". وفي الحقبة الأخيرة، بدأت بعض الأقلام الشابة بالتوجّه نحو أدب الأطفال، كالكاتب والشاعر والتونسيّ صلاح عيّاد الذي يحمل في رصيده عددًا من الأعمال ضمن هذا الجنس الأدبيّ.
انطلاقًا من أهمية الأدب في حياة الطفل، بادرت بعض الدول بالعمل على إنشاء برامج وتظاهرات تُعزّز هذا المجال، وتفتح الباب لتحقيق نموٍّ سليمٍ لأبنائها، مثل المعارض المُخصّصة لأدب الطفل، وغيرها من الانشطة والفعاليات بأسلوبٍ مبتكر وممتع. وتسعى هذه النشاطات إلى تمكينهم من المشاركة والابداع لتحقيق نشوءٍ واعٍ، فيتشرّب الطفل من خلال كلّ هذا السلوكيات والمعرفة التي تؤسس لمستقبله.
يحدث ذلك وفق رؤية شاملة تجمع بين الترفيه والمعرفة، بهدف رفع الوعي بأهمية وجدوى القراءة التي تُثري خيال الأطفال، وتمنحهم المتعة، وتغرس حب اللغة العربية في نفوس الصغار، وتشجّعهم على الاعتماد عليها كلغة للتعبير عن الذات.
في هذا السياق، تأسّست عدّة دور نشر حملت على عاتقها نشر كتب الأطفال واليافعين، مثل "دار الحدائق"، و"دار المنهل"، و"دار النحلة الصغيرة"، و"دار كلمات". ومن الواضح أنّ الهدف من دور المتخصّصة في هذا المجال هو تقديم فرصة للطفل يتمكّن من خلالها من التعامل مع كتابات نوعية، تعرف كيف تخاطبه بلغته، ووفق مداركه، مع ثقة عالية بذكائه، واحترام شخصيته، والحرص على تنمية طاقاته وتحفيزها. وبالتالي، تعزيز القراءة عنده، وتوطيد الصلة بينه وبين الكتاب.
ويعدّ مشروع "عربي 21" لتشجيع الأطفال على المطالعة، من أهم البرامج العربية التي تُعنى بالقراءة بالتعاون مع خبراء تربويين ومؤسّسات ناشطة في دعم القراءة. ويقوم على تنفيذ هذا المشروع مؤسسة "الفكر العربيّ"، ويهدف إلى الاهتمام بأدب الأطفال، وتشجيعهم على المطالعة، باعتبارها من أهم المهارات التي يكتسبها الإنسان في حياته، وتؤثّر بشكلٍ عميق وجذري على تصوره الفكري والاجتماعي.
أدب الأطفال أدب واسع المجال، ومتعدد الجوانب أيضًا، ولا يمكن تعريفه بأنّه مجرد قصّة أو حكاية نثرية أو شعرية، وإنّما يشمل كلّ المعارف الإنسانية
الملفت للنظر أّنّ الأبحاث العلمية شدّدت على أهمية القراءة في السنين الأولى من عمر الطفل، وما ينتجُ عنها من تشابكٍ عصبيّ وتطويرٍ للخلايا الدماغية التي تُنمّي قُدرات الطفل الذهنية، وتزيد من فرص نجاحه في التحصيل العلمي والعمل والابداع، فأصبح أدب الطفل من أهم المواد التربوية التي تدعم انشطة القراءة.
اقرأ/ي أيضًا: الترجمة والرقابة الذاتية.. أو لماذا تتعثّر ترجمة الجنس عربيًا؟
أخيرًا، إنّ أدب الأطفال أدب واسع المجال، ومتعدد الجوانب أيضًا، ولا يمكن تعريفه بأنّه مجرد قصّة أو حكاية نثرية أو شعرية، وإنّما يشمل كلّ المعارف الإنسانية من حسن تعبير وأداء وموسيقى لفظية وذوق جمالي. بالتالي، تكمن أهميته في تشكيل شخصية واضحة وجلية للطفل، فهو يسمو بذائقة جيل بأكمله نتيجة لتأثرهم به. لكن هل يعني هذا أنّ كل الكتب المُصنّفة للطفل تعتبر نوعية وذات حرص على اقصاء الجانب الأيديولوجي وبثّ القيم الإيجابية بعيدًا عن الصراعات والمفاهيم الخاطئة، والأساليب البائدة في ظل تحوّلات إقليمية تهدد استقرار المجتمعات العربية؟
اقرأ/ي أيضًا: