هناك ملاحظة وجّهها الشاعر والكاتب ممدوح عدوان إبان تقديمه لمجموعة إبراهيم صموئيل القصصية "رائحة الخطو الثقيل"، وأشاد فيها بالقصص التي تضمنتها المجموعة، التي تَدخل ضمن تصنيف أدب السجون، وتأتي بعيدة عن المباشرة في وصف عذابات السجن وأهواله، حيثُ إنّها تركّز على الأبعاد الجمالية والإنسانية في حياة السجين السياسي دون أن تتحوّل -بحسب تعبير عدوان- إلى شهادة قضائية، يؤدي ادعاء الحياد والموضوعية والصدق فيها إلى غياب الحياة.
يُضيف عدوان في تعقيبه على مجموعة صموئيل بأنّه ذات مرة سَمع الروائي عبد الرحمن منيف ينصح كاتبًا، خرج حديثًا من السجن، ويقول له: "ها أنتَ قد خضتَ تجربة السجن وعانيتَ ودفعتَ الثمن. اهدأ الآن. وسيطر على توترك وردود أفعالك. واكتب أدبًا".
نبكي عندما نقرأ أدب السجون، ويزداد تأثرّنا وبكاؤنا كلّما كانت لغة كتابته مباشرة وعارية، وكأنّنا نقرّ بأنّ جاذبيته تكمن في صدقه ووضوحه ومباشريته
اللافت في تعقيب عدوان السابق، بأنّه يأتي كمن يعيب على كتّاب أدب السجون استخدامهم للغة انفعالية مباشرة وواضحة وصريحة أثناء كتابتهم لتجاربهم في السجون، أو كمن يَطعن في الإمكانيات الأدبية التي يمتلكها أولئك الكتاب الذين ربّما يلجئون إلى استخدام تلكَ اللغة مدفوعين بدوافع عديدة لها ما يُبرّرها.
التعقيب السابق يدفع إلى الذهن بتساؤلات عديدة: فهل حقًا وجود أدب السجون في شكل موغل في المباشرة والصدق يُقلّل من قيمته كأدب؟ وهل كتابته في شكل شهادة قضائية يُؤدي إلى غياب الحياة عنه؟
ولنجيب على الأسئلة السابقة، علينا كقراء لأدب السجون أن نتذكّر شكل انفعالاتنا وتفاعلنا مع هذا الأدب، فروايات وقصص أدب السجون ربّما تكون الروايات والقصص الوحيدة التي يأتي شكل تفاعلنا معها بالدموع، فنجهش بالبكاء ونحن نقرأها، وكأنّ أرواح أصحابها تتلبّسنا فنصبح شركائهم في معاينة صنوف الأذى والتعذيب الجسدي والنفسي التي يتعرضون لها في السجون.
هذا الشكل من التفاعل بيننا وبين هذا الأدب، ربّما ما كان له أن يحدث لولا وجود قدر من المباشرة والوضوح في اللغة، التي تسمح بنقل وقائع المعاناة التي يقاسيها السجناء السياسيون، وسرد صنوف التعذيب التي يلاقونها في تفاصيلها الدقيقة والمؤلمة والفجة كذلك.
وفِعلًا، رغمَ أنّ الكتابة الأدبية لها شروط وصفات معينة، إلا أنّنا نجدها في الكثير من روايات وقصص أدب السجون تَتخلّص من عبء الشروط والصفات، فتَخلع عنها أثواب الاستعارات والكنايات والمجازات، وتأتينا مجرّدة وعارية من كلّ شيء سوى من حقيقة الألم الإنساني الذي تُقدّمه بمباشرة ووضوح. ربّما لأنّ هذا النوع من الكتابة المباشرة والعارية التي يتواجد بها أدب السجون هو ما يجعلنا كقراء نتفاعل معه بعيدًا عن كلّ حيادية سلبية، أو كما أوردت الكاتبة السورية أنجيل الشاعر في مقالتها المنشورة في مجلة رواق ميسلون بعنوان "جرحٌ على جدار العانة": "لا يمكن للقارئ والقارئة أن يتعاطى مع أدب السجون بحيادية، من دون أن يشعر وتشعر بالألم والخوف والغثيان والدوار، واستحضار مشاهد التعذيب وتقمّص دور السجين/ة، فالمتلقّي/ة هنا شريك/ة في جميع مفاصل الرواية".
هناك كتاب عرب كثيرون كتبوا تجاربهم التي مروا بها في السجون في أقصى ما يمتلكونه من المباشرة والوضوح اللغوي، ومع ذلك ظلوا يقرون بأنّ اللغة حتى في أقصى درجاتها انكشافًا ووضوحًا ستبقى عاجزة عن إنصاف مخزون الوجع المعبّأ في الذاكرة والأحاسيس والجسد، فالوجع الإنساني الذي يُعاينه السجين السياسي هو أكبر من كلّ لغة يُمكن أن تختزله وتعبّر عنه.
نحنُ كقراء نبكي عندما نقرأ أدب السجون، ويزداد تأثرّنا وبكاؤنا كلّما كانت لغة كتابته مباشرة وعارية، وكأنّنا نقرّ بأنّ جاذبيته تكمن في صدقه ووضوحه ومباشريته، وقدرته على جعلنا نشعر بوضعية القهر والظلم الإنساني في أكثر لحظاتها قسوة ووحشية.