يعيش سوق الكتاب في مصر حاليًا حالة من الازدهار، أو على الأقل هذا ما تخبرنا به أرقام التوزيع وتكاثر أعداد دور النشر، يومًا بعد يوم، حتى أصبح من المألوف أن يصل كتاب ما إلى الطبعة الثلاثين وربما الأربعين خلال سنتين أو أقل.
أكثر من 250 عملًا أدبيًا خلال 25 عامًا هي حصيلة أحمد خالد توفيق طبيب أمراض الدم الذي صار كاتبًا شعبيًا
في العقد الأول من الألفية الجديدة، فتحت روايات مثل "عمارة يعقوبيان" و"ربع جرام" بأرقام توزيعهما غير المسبوقة وقتذاك الطريق أمام فن الرواية كي يصبح على قائمة تفضيلات القراء "الكاجوال" في مصر، بعد أن ظلت تلك الفئة تتابع فقط ما يتيسَّر أمامها من كتابة أدبية في المنتديات الإلكترونية وجلسات القراءة العابرة. ثم جاء النجاح المفاجئ لكتاب "تاكسي.. حواديت المشاوير" لخالد الخميسي ومعه أعمال عمر طاهر لتلفت النظر إلى نوعية من الكتابات غير التقليدية اجتذبت لها قرّاء كثيرون. وفي نهاية العقد، عشية ثورة 25 يناير، بدأ ظهور سيل من الكتابات غير الإبداعية الخفيفة تحاول الاستفادة من نجاح "تاكسي" وغيرها من إصدارات دار الشروق، التي حاولت الاستفادة من حيوية ويومية أدب المدونات في ذلك الوقت الذي يبدو بعيدًا للغاية حاليًا.
اقرأ/ي أيضًا: رواية "أورشليم".. تاريخ الرعب الإنساني
والآن بعد قيام وانهيار الثورة، يبدو أن عالم القراءة السري والشائع في آن والبعيد نسبيًا عن الرصد تتجه بوصلته إلى أرض جديدة لم يألفها الأدب المصري سابقًا إلا في محاولات نادرة، أدب الرعب، وهو المصطلح الذي يلتصق بتلك الكتابات التي تتحدث عن العفاريت والجن والعوالم السفلية وخباياها. لكن المشكلة أن أغلب ما يندرج تحت هذا المفهوم عبارة عن كتابات/روايات رديئة تأتي من شباب في عشرينياتهم وثلاثينياتهم يهدرون طاقتهم وطاقة قرّائهم في محاكاة عوالم أجنبية تمامًا وحشدها بالعنف المجاني المملل، مع عجز واضح عن تطوير أي بناء سردي يمكن له فتح الطريق أمام أصحاب المواهب منهم (بافتراض وجودها) للتعبير عن نفسهم وعن أفكارهم. وما بين اتهام وترويج لذلك النوع الجديد، يبرز اسم أحمد خالد توفيق صاحب السلسلة الشهيرة "روايات ما رواء الطبيعة" والذي يعتبره كثيرون الرائد الحقيقي لأدب الرعب في مصر.
أكثر من 250 عملًا أدبيًا خلال 25 عامًا هي حصيلة أحمد خالد توفيق طبيب أمراض الدم الذي صار كاتبًا شعبيًا، بفضل روايات شبابية خفيفة تحمل أسلوبًا رشيقًا يمزج بين المعلوماتية والتشويق والنبرة الساخرة. شعبية أحمد خالد توفيق كانت السبب الأساسي وراء اتهامه بـ "إفساد ذوق الكتاب الشباب" ودفعهم لكتابة أدب الرعب في بيئات لديها ما يكفي منه. ولكن الأب الروحي للعديد من الكتاب الشباب الحاليين حاول الدفاع عن نفسه، بقوله "ليس ذنبي أنني ناجح"، مؤكدًا في أكثر من حديث صحفي أن الساحة الثقافية تعاني من فوضي أقلام الكتاب الشباب، طالبًا منهم استكشاف جوانب ومجالات أخرى للكتابة بعيدًا عن أدب الرعب، وسدّ الفراغ المتفشي في مجال الخيال العلمي والواقعية.
لكن الغزو قد حدث فعلًا، ولن يفيد في شيء لوم "الروّاد" على ما فعله السفهاء من معجبيهم، وليس صحيحًا بالأساس اعتماد ذلك الأمر وحده سببًا لموضة لا تتوقف حدودها عند مصر، بل تنتشر في العالم كله. ففي عام 2011، قادت مجموعة من كتاب "الأدب التجاري" حملة غاضبة استهدفت برنامج "الكتب التي نقرأها" الشهير على القناة الثانية بالبي بي سي، والسبب وراء ذلك ما رآه الكتاب من تحامل مقدمي البرنامج تجاه أدب الرعب والخيال والخيال العلمي، بما يعارض الأهداف الأساسية للبرنامج الذي من المفروض أن يشجّع الناس علي قراءة الروايات. واستنكر القائمين على الحملة تجاهل البرنامج لتلك الأنواع الأدبية التي تجتذب تقريبًا ثلث عدد القراء الناشطين في بريطانيا.
شهرة أحمد يونس الممتدة منذ سنوات من خلال برامجه الليلية على محطات الإذاعة قد تفسّر جانبًا كبيرًا من نجاحه التجاري
بالطبع لم نصل في مصر، ولا العالم العربي بأكمله، لمثل هذا المستوى من الجدل الفعّال والنقاش على أمور تبدو ثانوية في ظل إلحاح وسطوة فشل تجارب كبرى أكثر أهمية. ولكن الإشارة إلى السياق البريطاني لا تهدف سوى إبراز انتشار هذا النوع من الأدب عالميًا واختلافه عما يُقدّم هنا، فإذا كان الحديث في بريطانيا يدور حول روايات مثل "هاري بورتر" و"توايلايت"، فالتجارب المصرية في هذا الإطار ستفاجئنا بوقائع يعجز المرء عن إدراكها أو تفهّم سرّ نجاحها الساحق.
اقرأ/ي أيضًا: صورة للعراق بعد قرن من الاحتلال الأمريكي
مئات العناوين ستلاحقها عيناك إذا حاولت القيام بتجربة عملية وزرت بائع كتب على الرصيف أو ذهبت إلى فرع إحدى المكتبات الشهيرة في المولات التجارية أو حتى تلك التي تزايد عددها في المحافظات الإقليمية. ثمة ركن خاص أصبح محجوزًا لتلك "الروايات"، وثمة مركز متقدم ستحتله إحداها في قوائم الأكثر مبيعًا. لكن من جديد، المشكلة الأساسية هنا هي رداءة ما يجري الترويج له بصفته "أدب خيال علمي" أو "رواية رعب". على سبيل المثال، هناك رواية بعنوان "نادر فودة" لكاتبها مذيع الراديو الشهير أحمد يونس صدر منها 40 طبعة حتى وقت كتابة هذه السطور، وهي عبارة عن مزيج من حكايات المقاهي ونميمة الأحاديث الهاتفية مكتوبة بعامية ركيكة، وصدر منها جزء ثانٍ بعد عيد الأضحى الماضي، ويُنتظر ظهور الجزء الثالث منها في معرض القاهرة للكتاب أوائل العام الجديد. شهرة أحمد يونس الممتدة منذ سنوات من خلال برامجه الليلية على محطات الإذاعة قد تفسّر جانبًا كبيرًا من ذلك النجاح التجاري واللهاث الجماهيري لقراءة "الرواية التي كتبها المذيع المفضل"، لكن ومع ذلك لا ينبغي إهمال ظاهرة أخرى تستحق الدراسة اسمها حسن الجندي.
اقرأ/ي أيضًا: محمد عبد النبي: لا أريد أن يُنظر إلى روايتي بعدسة سياحية
بدأ حسن الجندي الكتابة والنشر على المنتديات الإلكترونية منذ عام 2008، ثم تحقق له الانتشار مع طباعة ثلاثيته الروائية "مخطوطة بن اسحاق" والتي باعت أكثر من 150 ألف نسخة. يقترن اسم حسن الجندي بعالم "الجن والعفاريت والمخطوطات القديمة والقتلة النفسيين"، ويعتبر واحدًا من أساطين الكتابة بالنسبة لكثير من الشباب والمراهقين المصريين، يحلمون بلقائه ويسعون لحضور حفلات توقيع رواياته. في أحد حواراته الصحفية، يذكر حسن الجندي أنه تلقى الكثير من الاتصالات والرسائل تطلب منه أرقام هواتف شخصيات معينة في رواياته وعندما كان يخبرهم بأنها شخصيات ليست حقيقية كان البعض يصرّ على أنه يخفي حقيقتها لدواع أمنية. يؤمن حسن الجندي بأن أدب الرعب يثبت وجوده على الساحة الثقافية كل يوم ويدحض القول بموضته، وبأن ما يقدّمه هو نوع جديد من أدب الرعب، مصري تمامًا ويمكنه الوصول إلى العالمية، وليس مجرد تقليد أو مسخ للقصص الأوربية. حسن الجندي نجم بمعايير السوق، استطاع التسلل إلى عقول المراهقين من قرائه في أوقات فراغهم التي لا ينشغلون فيها بتصفح هواتفهم المحمولة، ولكن هل يمكن أن تؤثر كتابات حسن الجندي، وزملائه، بالسلب على تلقي الكتابات الجيدة؟ وما الذي أوصلنا إلى هذه النقطة من انحدار الذوق الأدبي؟
ثمة جانب إيجابي مثالي ومطلق في السديم يتعلّق بالوافد الجديد على المشهد الثقافي المصري، ألا وهو القارئ المقبل فعلًا على القراءة، لكن السبب الواضح لإقباله على كتابة ما هو خِفّتها لا فنّيتها. وهذا هو الجانب السلبي في الموضوع، خاصة أن نجوم ذلك النوع استمرأوا المسألة وباتوا يجاورون حكايات الأشباح المخيفة وطلاسم تحضير الجن والعفاريت إلى جانب أوهام العوالم السفيلة، ليخرجوا كل بضعة شهور برواية رعب جديدة إلى قرائهم المخلصين المنتظرين. تقول ج. ك. رولينغ، مؤلفة سلسة روايات هاري بوتر"أنا لا أؤمن بالسحر الموجود في كتبي ولكنني أؤمن بأن أمرًا ساحرًا قد يحدث عندما تقرأ كتابًا جيدًا". ولكن نسبة محترمة من قرّاء روايات الرعب المصرية يصدّقون فعلًا الترويج للغيبيات والخرافات التي تعجّ بها تلك الروايات. وأكثر ما يُرعب في الأمر، من الناحية الفنية، أن اتساع نطاق كتابة أدب الرعب في السنوات الأخيرة يتماثل في ميكانيزماته مع أغلب ما تنتجه السوشال ميديا في انفجارها الحالي، حيث يكون استهداف فضول القارئ بأي وسيلة هو محطة الوصول الأخيرة، وكلما كانت الوسيلة أكثر سطحية كانت أفضل وأنجح.
ج. ك. رولينغ: لا أؤمن بالسحر الموجود في كتبي ولكنني أؤمن بأن أمرًا ساحرًا قد يحدث عندما تقرأ كتابًا جيدًا
في واحد من تفسيرات علم النفس لإقبال الناس على أفلام وروايات الرعب، يشير سيغموند فرويد إلى ما يسمّيه "علم نفس الرعب"، حيث تتحول مواجهة الإنسان لما يخيفه إلى مصدر ثقة له، تُشعره بالتفوق على غيره ممن يطالع حياتهن عبر الشاشة أو على صفحات الرواية مرتهنين للخوف المحدق بهم بينما هو جالس في مكانه، آمن وهادئ. تطبيق ذلك التفسير على الواقع المصري لا ينبئ بنتيجة مماثلة، لأن الواقع نفسه مرعب وغاشم ولا يمكن التعامل معه إلا بالكثير من التحايل والإنكار. أما على المستوى السوسيو سياسي، فهل يكون تغييب السؤال السياسي في الشارع، بإماتة الحياة السياسية وتفريغ المجال العام من جانب النظام الحالي، سببًا في انصراف الكثيرين ممن شهدوا فورة وثورة يناير 2011، في بدايات شبابهم، إلى محاولة ترميم الهوة الروحية والعاطفية الناتجة من إجهاض حلم الثورة والتغيير، في قراءة ما لا يضر ولا يفيد؟ ربما. وهل يكون إقبال من شهدوا الثورة، حين كانوا أطفالًا أو في بدايات مراهقتهم، على قراءة قصص الرعب الرديئة وسيلة هروب من واقع مأزوم ومعقد يحبل بمستقبل غائم ومقبض؟ ربما. وهل توقُّف وإفساد النشاط الطلابي في الجامعات المصرية، بسبب التدخلات الأمنية ومحاولة الحفاظ على "الاستقرار"، هو ما يدفع قطاعات واسعة من الطلاب الجامعيين لإدمان قراءة روايات الرعب الرديئة؟ ربما.
الأكثر رعبًا فعلًا أن تصحّ التخمينات السابقة، فيكون علينا الاستعداد لبقاء طويل مع موجات قادمة من "أدب الرعب" الرديء، لأن ما يحدث في مصر حاليًا، من قمع ممنهج وتكميم أفواه ومصادرة حقوق أساسية، يخبرنا بدوام طويل لذلك "الأدب" الذي سيعلّمنا الأدب من جديد.
اقرأ/ي أيضًا: