انتهى الانقلاب إذن، وعادت الدبابات والطائرات إلى قواعدها، فما كان يحدث قديمًا يبدو أنه ولى، فزمن كنعان غيفرين ليس هذا الزمن، وغلبة الجيش التي عزلت الراحل نجم الدين أربكان في عام 1997 لم تعد كما كانت عليه.
مما لا شك فيه، سيكتب التاريخ حتمًا أسماء "شهداء" الانقلاب وكيف نزل الشعب التركي ليبيت في الشوارع دفاعًا عن تجربته الديمقراطية وعن مكتسباته التي تأكد أنها ستذهب مع فجر يوم نجاح الجيش في السيطرة على مقاليد الحكم، وسيكتب التاريخ أيضًا أن الرئيس الذي هدد بمنع وسائل التواصل الاجتماعي في وقت سابق، كانت نجاته على إحدى تطبيقاتها.
سيكتب التاريخ حتمًا أسماء "شهداء" الانقلاب وكيف نزل الشعب التركي ليبيت في الشوارع دفاعًا عن تجربته الديمقراطية
اقرأ/ي أيضًا: أمريكا والانقلاب الأخير في تركيا
بصرف النظر عن عدد مقابلات أردوغان التي أجراها مع الفضائيات ومحطات التلفزة وكلماته لمؤيديه، إلا أن الرجل يحمل في حديثه وعيدًا وخطة جذرية تهدف إلى الانتقام من أزلام فتح الله غولن ومن قادة الجيش المعارضين لرؤيته في القريب القادم، فها قد أعلنت حالة الطوارئ في البلاد لمدة ثلاثة أشهر وها قد اعتقل أكثر من 8 آلاف شخص وعزل ضعفهم من مناصبهم من مختلف أجهزة كيان الدولة بدأ من الجيش مرورًا بالدرك وانتهاء بالقضاء والمدعين العامين، فإلى أين سيذهب أردوغان بعد هذا كله، وما هي حدود ردود أفعاله، وفي ماذا يفكر عقب انتهاء الخطر.
ثمة تداخل معقد لصيغة العلاقة التي تجمع أردوغان وفتح الله غولن والمؤسسة العسكرية، فهذا الثالوث شهد تحالفات ثنائية أقل ما يمكن وصفها به أنها متناقضة، ويتبع ذلك بطبيعة الحال إلى براغماتية الأطراف الثلاثة ومعادلة الداخل التركي، والمتغيرات الإقليمية "الكبيرة" والمتسارعة التي تعصف بجوار الدولة المنخرطة في حلف شمال الأطلسي.
فمنذ حادثة ما يسمى "بالاكيغورن" وتصفية قادة الجيش الأتاتوركيين بواسطة حركة الخدمة أو ما يسمى بالكيان الموازي، بدأت علاقة أردوغان وأفراد حزبه الطيبة مع غولن وحركته التي استمرت سنوات إلى أن انفكت عقب حادثة سفينة مرمرة، التي كانت القشة التي أنهت تحالف الجهتين وسط ارتياح رجب طيب أردوغان الذي بات يرى تغول الحركة في مفاصل الدولة أمرًا لا يمكن السكوت عنه.
في سنوات القطيعة التي امتدت طوال أكثر من خمس سنوات عمل حزب العدالة والتنمية بقيادة أحمد داوود أوغلو وبن علي يلدريم بتوجيهات أردوغان إلى مكافحة تواجد غولن وأفراد حركته في الدولة العميقة التركية، فما فعله مع الجيش قديمًا أعاده ولكن مع حليف الأمس العدو الأقرب لمنازعته على السلطة، غير أن معظم جهد الدولة بمحاربة الحركة باء بالفشل وهذا ما أظهرته محاولة الانقلاب، حيث وجد أن الكيان الموازي ممتد بأذرعه بطريقة تكاد تلمس كافة أطياف الدولة التركية، وفي مقدمتها الجيش الذي كان له الأثر الأكبر في تصفية علمانية فيما مضى، من هذه النقطة بالتحديد يبدأ التساؤل عن خطة الرئيس التي سينتهجها للحفاظ على السلطة أولًا وأخيرًا.
اقرأ/ي أيضًا: الفريضة الغائبة في الثورة المصرية
في هذه المناسبة لا يمكن إغفال طريقة حكم الرجل التي بدت في الآونة الاخيرة أقرب إلى الدكتاتوية في الداخل وإلى التخبط في الخارج، فمن سياسة صفر مشاكل مع الجوار إلى سياسة الأعداء المحيطين بتركيا من كل جانب، بدا رجب طيب رجل متسلط صاحب قرارات انفعالية تهدف لتركيز السلطة بيده وحده على الصعيد الداخلي، وهذا ما اتضح من تنحية الرجل الأول في حزبه لخلافات على الصلاحيات وحدود المسؤوليات، فيما ظهر خارجيًا متورطًا بصدام مع الروس والأكراد دون غطاء أمريكي يذكر.
بالعودة إلى رهانات أردوغان المقبلة يبدو أن المسار ستحكمه عدة محددات هامة بالنسبة للرجل، إذ ستكون أولويته الأولى القضاء التام على كافة المنضوين تحت الكيان الموازي، وهذا ما ظهر من حجم الاعتقالات والعزل التي بدأ بها، ليضمن، وقد ضمن، تأييد الشعب المنتشي بالانتصار الأول على العسكريين، عدم صعود خطر غولن من جديد، ثاني الأولويات ستتجسد بوضع أسس جديدة تكمل مسيرة إعادة التموضع التي بدأتها تركيا خارجيًا وتحديدًا فيما يخص الأزمة السورية بإصلاح العلاقات مع روسيا وإسرائيل والتماهي مع الرؤية الأمريكية لحل المشكلة السورية وتقديم قتال تنظيم الدولة الإسلامية على الإطاحة بنظام الأسد، يضاف إلى ذلك مواصلة العمل على تحسين الاقتصاد المتضرر في القريب العاجل.
إلا أن الخوف بدأ يتسلل إلى صدور المعارضة المدنية التي وقفت ضد الانقلاب، وكانت أحد أهم الروافد التي حافظت على استدامة التجربة الديمقراطية، هذا الخوف مرده من إمكانية استغلال أردوغان لحالة الانتصار والتأييد الذي يحظى بهما العمل على إضعاف المعارضة وتمرير عدة قرارات من أهمها الانتقال بتركيا إلى النظام الرئاسي الذي ترفضه المعارضة، ناهيك عن قضية الأكراد في الداخل والخوف من استغلال الظرف التاريخي لوأد مطالبهم وحقوقهم.
كلما استمر الوقت بالمضي ستتكشف خطط الرئيس أردوغان أكثر، ولكن حذاري من غرور المنتصر وبطشه، فالشعب والأحزاب التي دافعت عن الديمقراطية قبل أيام لن تنزل مجددًا إذا شعرت بفقدانها.
اقرأ/ي أيضًا: