ألترا صوت - فريق التحرير
هذه المساحة مخصصة، كل أربعاء، لأرشيف الثقافة والفن، لكل ما جرى في أزمنة سابقة من معارك أدبية وفنية وفكرية، ولكل ما دار من سجالات وأسئلة في مختلف المجالات، ولكل ما مثّل صدوره حدثًا سواء في الكتب أو المجلات أو الصحف، لكل ذلك كي نقول إن زمن الفن والفكر والأدب زمن واحد، مستمر دون انقطاع.
بين مشروع المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري "نقد العقل العربي"، ومشروع المفكر السوري الراحل أيضًا جورج طرابيشي "نقد نقد العقل العربي"، جدلٌ واسع وسجالات حادة غلب عليها الطابع الشخصي في أحيانٍ كثيرة، ودارت أكثر ما دارت بين مؤيدي أطروحات الطرفين ومعارضيها، بدلًا من أن تدور بينهما بشكلٍ مباشر في إطار سجالٍ فكري كان ليكون، في حال حدوثه، واحدًا من أهم السجالات الفكرية في العالم العربي أواخر القرن الفائت.
يبرِّر الجابري امتناعه عن مساجلة طرابيشي، بقوله في أحد حواراته: "أنا لا أساجل غير مسلم في شؤون اﻹسلام"
يعود الخلاف بين محمد عابد الجابري (1935 - 2010)، وجورج طرابيشي (1939 - 2016)، إلى منتصف تسعينيات القرن الفائت، حينما أصدر المفكر السوري كتابًا بعنوان "نظرية العقل"، وهو الجزء اﻷول من مشروعه "نقد نقد العقل العربي"، الذي ضم أربعة كتب نقدية رد فيها على مشروع الجابري.
اقرأ/ي أيضًا: أرشيفنا الثقافي: النقاش العربي حول صهيونية فرانز كافكا
وأثار الكتاب عند صدوره جدلًا واسعًا، ومشاداتٍ كلامية حادة، وسجالاتٍ ساخنة، في اﻷوساط اﻷكاديمية والثقافية العربية. وانقسم قراؤه بين فئةٍ ترى في مضمونه نقدًا حقيقيًا لما جاء به المفكر المغربي في مشروعه. وأخرى تعتبره مجرد تجريحٍ لا يرقى إلى مقام النقد، ولا يمكن التعامل مع إلا بوصفه محاولة تصفية ونفي مردّها تحامل شخصي، اﻷمر الذي انحدر بالنقاش الذي يُفترض أن يكون فكريًا، إلى ما دون المستوى الفكري والأكاديمي.
يقول جورج طرابيشي في مقدمة كتابه: "اندفعت أتحرى عن شواهد الجابري وأتحقق منها واحدًا واحدًا، سواء أكانت عربية أم أجنبية. فانفتح عندئذٍ أمامي باب أكبر للذهول: فليس من بين مئات شواهد الجابري في "تكوين العقل العربي" سوى قلة قليلة ما أصابها تحريف أو تزييف أو توظيف بعكس منطوقها. ومن ثم ارتددت إلى "تكوين العقل العربي" أقرأه بعين جديدة، وبمحاسبة نقدية صارمة. وعندئذٍ اكتشفت أن الزيف - ولا أتردد في استعمال هذه الكلمة - يكمن في اﻹشكاليات نفسها، وليس فقط في تعزيزاتها وحيثياتها من الشواهد".
لم يكن محمد عابد الجابري يوفر جهدًا آنذاك في الرد على منتقديه. ولكنه، وﻷسبابٍ غير معروفة، تجاهل نقد طرابيشي لمشروعه. وحتى حين التفت إليه فيما بعد، فإنه اكتفى بالحديث عن المفكر السوري وشخصه، بدل الرد على مؤلفاته التي بلغت أربعة كتب قضى نحو عشرين عامًا في تأليفها.
ويبرِّر صاحب "نحن والتراث" امتناعه عن مساجلة طرابيشي والرد على مؤلفاته، بقوله في أحد حواراته: "أنا لا أساجل غير مسلم في شؤون اﻹسلام". ويضيف في حوارٍ آخر: "إن الذين ينتقدونني ثلاثة أصناف، هناك صنف يمر على العمارة التي بنيتها ويعيبها أو يمدحها من دون أن يدخل ويعرف ما فيها، وهناك صنف ثان كان يهجوها ويسبها، وهناك صنف ثالث يقذفها بالحجر، وجورج طرابيشي من الصنف الثالث، وهذا لا يشغلني".
بهذه الطريقة، اعتاد المفكر المغربي الرد على اﻷسئلة التي تستفسر عن أسباب عدم مساجلته لصاحب "هرطقات" وما تقدّم به حول مشروعه، حيث كان كثير التركيز على شخصه، يعيب عليه على سبيل المثال عدم حصوله على درجة الدكتوراه: "إنه حاصل على الليسانس ودرجة الماجستير، ولم يحصل على الدكتوراه. فرصة ممارسة البحث العلمي لم تتح له، ولم يمارس التدريس الجامعي، أي أنه ليس أكاديميًا".
أو يأتي على ذكر مسائل شخصية من قبيل أن مؤلف "من النهضة إلى الردة"، طلب منه حين كان في باريس أن يتوسط له عند محمد أركون، لكي يشرف على أطروحته للدكتوراه، ولكنه اكتشف لاحقًا أنه يسعى إلى الحصول على الدكتوراه عبر مناقشة مؤلفاته فقط، وهذا ما رفضه أركون بحسب تعبيره. وأكثر من ذلك، كان الجابري دائمًا ما يعيد أسباب نقد طرابيشي لمشروعه إلى حادثة شخصية، قائلًا: "طرابيشي استقبل كتابي "عن التراث" بحفاوة كبيرة، غير أن حادثة شخصيا غيرت رأيه الفكري كليًا تجاهي".
واستنادًا إلى ما قاله الجابري، اتهم البعض جورج طرابيشي بأنه تمثّل مشروع اﻷخير ثم انقلب عليه، إلا أن للمفكر السوري رأيه في هذه المسألة، حيث قال في أحد حواراته: "هذه ليست تهمة، فأنا نفسي صرحت وكتبت أنني سُحرت في أول اﻷمر سحرًا حقيقيًا بكتاب الجابري "تكوين العقل العربي". وقد كتبت عنه في حينه في مجلة "الوحدة" أنه ليس كتابًا يثقف بل هو أيضًا كتاب يغيّر، فمن يقرأه لا يعود بعد قراءته كما كان قبل قراءته".
انقسم قرّاء مشروع طرابيشي بين فئةٍ ترى فيه نقدًا حقيقيًا لمشروع الجابري، وأخرى تعتبره مجرد تجريحٍ لا يرقى إلى مقام النقد
ويضيف: "وأعتقد أن هذا مديح كبير للجابري، ولكن هذا المديح نفسه هو ما جعلني أنتقل إلى موقع "نقد النقد" عندما اكتشفت، وربما من قبيل الصدفة البحتة، أن الجابري يصوغ إشكالياته، التي بدت لي في أول اﻷمر آسرة، انطلاقًا من شواهد مزيفة، بل انطلاقًا من شواهد يزيفها عن عمد لتخدم ما يصوغه من إشكاليات بحيث يجبر قارئه على أن يعطي لهذه اﻹشكاليات اﻷجوبة التي يريد له أن يعطيها، انطلاقًا من موقف إيديولوجي محدد ومسبق".
اقرأ/ي أيضًا: أرشيفنا الثقافي: زيارة وفد "البرلمان العالمي للكتّاب" إلى فلسطين
يأخذ البعض على محمد عابد الجابري امتناعه عن مساجلة جورج طرابيشي، على اعتبار أن سجالهما كان سيكون واحدًا من أهم السجالات الفكرية، وأكثرها عمقًا، في العالم العربي، لو أنه قام بالرد على المؤلَّفات التي وضعها طرابيشي في نقد مشروعه.
اقرأ/ي أيضًا:
أرشيفنا الثقافي: تعرّف على أبرز العناوين التي صدرت في "سلسلة روايات عالمية"