قدّمت "دار المعارف" المصرية في عصرها الذهبي، بين أربعينات وستينيات القرن الفائت تحديدًا، عددًا مهمًا من الكتب والترجمات التي جعلت منها واحدة من كبريات دور النشر، التي ساهمت في إمداد المكتبة العربية بعناوين مميزة في مجالات مختلفة، شملت الأدب والتاريخ والسياسة والفلسفة والطب والدين وغيره.
سعت "دار المعارف" من خلال سلسلتها "ذخائر العرب" التي أطلقتها في عام 1948 إلى إحياء التراث العربي القديم ونشر ذخائره
تُعتبر "دار المعارف" التي تأسست عام 1890 على يد اللبناني نجيب متري، واحدة من أهم وأقدم التجارب العربية في مجالها. حيث ساهمت، خلال سنوات نشاطها، في رفد المكتبة العربية بمجموعة من سلاسل الكتب الأدبية والعلمية والفلسفية والدينية والتراثية، التي سعت عبرها إلى النهوض بثقافة عربية تنويرية، وتزويد القارئ العربي بعناوين مميزة في مجالات معرفية مختلفة.
سلسلة "ذخائر العرب"، المتخصصة بنشر التراث العربي، هي السلسلة الأهم والأكثر شهرة في تجربة "دار المعارف"، سواءً لناحية نشاطها أو نوعية العناوين التي وضعتها بين يدي القراء العرب، وشملت أمهات التراث العربي في مجالات عدة، من بينها الأدب والتاريخ واللغة والبلاغة والحديث والتفسير والتصوف والفلسفة.
أطلقت "المعارف" سلسلة "ذخائر العرب" في كانون الأول/ ديسمبر عام 1948، بصفتها سلسلة كتب تُعنى بنشر التراث العربي تحت إشراف لجنة متخصصة تضم كبار الأدباء والمفكرين العرب، وهم: محمد حلمي عيسى، وأحمد أمين، وطه حسين، وعلي عجارم، وعبد الوهاب عزام، وإبراهيم مصطفى، وأحمد محمد شاكر.
اختار أعضاء اللجنة كتاب "مجالس ثعلب" لمؤلفه أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب، الذي يُعتبر من المؤلفات الأدبية واللغوية النفيسة في التراث العربي، ليكون باكورة إصدارات السلسلة التي صدر منها نحو 80 كتابًا، وصل عدد أجزاء بعضها إلى 10 أجزاء.
وجاء في تقديم الكتاب الذي صدر في جزأين، وأسندت "دار المعارف" مهمة تحقيقه إلى المصري عبد السلام هارون، أن الغاية من هذه السلسلة هي إحياء التراث العربي القديم، ونشر ذخائره التي أشارت المقدمة إلى أن في نشر كل ذخيرة منها: "فضل على الأجيال القديمة التي أنتجتها، لأنه يحييها بعد موت، وينطقها بعد صمت، وينشطها بعد خمود. وفضل على الأجيال المستقبلية لا ينقضي، لأنه يرضي حاجتها إلى المعرفة، ويقوي صلتها بالماضي، وينمي قدرتها على إصلاح المستقبل".
وإلى جانب "مجالس ثعلب"، صدر عن السلسلة مؤلفات أخرى عديدة، نذكر منها: "شرح ديوان أبي الطيب المتنبي" لأبي العلاء المعري، و"تهافت الفلاسفة" للإمام العزالي، و"ديوان دريد بن الصمة"، و"الرسالة القشيرية" للإمام أبي القاسم عبد الكريم القشيري، و"حي بن يقظان" لابن سينا وابن طفيل والسهرودي، و"طبقات الشعراء" لابن المعتز، و"ديوان جرير"، و"ديوان امرؤ القيس"، و"البخلاء" للجاحظ"، و"إصلاح المنطق" لابن السكيت، وغيره.
"ذخائر العرب" هي السلسلة الأهم والأكثر شهرة في تجربة "المعارف" سواءً لناحية نشاطها أو نوعية العناوين التي وضعتها بين يدي القراء العرب
وعلى الرغم من أن السلسلة انطلقت فعليًا في عام 1948، إلا أن فكرتها تعود إلى مطلع أربعينيات القرن الفائت بحسب عبد السلام هارون، الذي يقول في كتابه "التراث العربي" إن "دار المعارف": "بدأت نشاطها في إحياء التراث العربي سنة 1942م حين فكرت أنا وأخي العلامة المغفور له الشيخ أحمد شاكر في نشر مجموعات من عيون الشعر سميناها (ديوان العرب). وبدأنا في نشر (المفضليات)، ثم (الأصمعيات)".
ويضيف العالم المصري: "ثم اقترحنا على الدار أن تخصص نشرًا منظمًا لعيون التراث العربي، فسرعان ما استجابت لهذا الاقتراح وقامت بتنظيم تنفيذه. وأذكر أن الدار قد أعلنت في ذلك الوقت عن مسابقة لتسمية هذا المشروع، ففاز به عنوان (ذخائر العرب)".