ألترا صوت – فريق التحرير
هذه المساحة مخصصة، كل أربعاء، لأرشيف الثقافة والفن، لكل ما جرى في أزمنة سابقة من معارك أدبية وفنية وفكرية، ولكل ما دار من سجالات وأسئلة في مختلف المجالات، ولكل ما مثّل صدوره حدثًا سواء في الكتب أو المجلات أو الصحف، لكل ذلك كي نقول إن زمن الفن والفكر والأدب زمن واحد، مستمر دون انقطاع.
"قوارب جبلية" هو عنوان رواية الكاتب اليمني وجدي الأهدل، التي صدرت أوائل عام 2002 عن "مركز عبادي للدراسات والنشر" في العاصمة اليمنية صنعاء. وفيها، يسلط الأهدل الضوء على تناقضات المجتمع اليمني وإشكالياته التي تُطرح داخل الرواية ضمن أجواءٍ فانتازية ساخرة، ومن منظور فئاتٍ مختلفة تتشارك في بناء صورة صادمة لليمن السعيد أواخر تسعينيات القرن الفائت.
صادرت وزارة الثقافة اليمنية رواية وجدي الأهدل "قوارب جبلية" بحجة أنها تشوه صورة اليمن، وتسيء إلى الإسلام، وتهاجم مؤسسات الدولة
أثارت الرواية عند صدورها جدلًا واسعًا في الأوساط الثقافية اليمنية بسبب مضمونها، الذي انقسمت آراء القراء والنقاد حوله بين فئةٍ رأت فيه وصفًا جريئًا لأحوال المجتمع اليمني، وأخرى اعتبرته مجرد محاولة لتشويه صورة اليمن، والإساءة إلى عاداته وتقاليده وقيمه الأصيلة.
اقرأ/ي أيضًا: أرشيفنا الثقافي: استقالة محمود درويش من "منظمة التحرير" احتجاجًا على "أوسلو"
ولكن الأمر تجاوز سجالات الوسط الثقافي، ونقد الرواية، إلى مهاجمة مؤلفها واتهامه، من قبل شخصياتٍ سياسية وقَبَلية ودينية مختلفة، بتشويه صورة اليمن، والإساءة إلى الإسلام والتيارات الإسلامية اليمنية، ومهاجمة مؤسسات الدولة، وعلى رأسها المؤسسة العسكرية.
ترافقت هذه الاتهامات مع حملة تشهير وتحريض قادتها بعض الصحف اليمنية ضد وجدي الأهدل وروايته، التي أقدمت وزارة الثقافة اليمنية على مصادرتها وإغلاق دار النشر التي صدرت عنها، وذلك قبل قيامها برفع دعوة قضائية ضد مؤلفها وناشرها نبيل عبد اللطيف العبادي، لدى نيابة الصحافة والمطبوعات.
وباستثناء التهم المتداولة بين الناس وفي وسائل الإعلام، لم تقدّم وزارة الثقافة اليمنية ما يُبرر إقدامها على مصادرة الرواية، وإحالة مؤلفها وناشرها إلى التحقيق. كما أنها لم تتخذ، ومن خلفها الحكومة اليمنية بشكلٍ عام، أي إجراءاتٍ لحماية وجدي الأهدل الذي تعرض حينها لتهديداتٍ بالتصفية الجسدية.
أمام هذه التطورات، وبعد دخول أئمة بعض المساجد على خط التحريض ضده، بالإضافة إلى استدعائه للتحقيق برفقة ناشره وعددٍ من أصدقائه الذين اتُهموا بتسهيل نشر الرواية، وتعرضه للتهديد، وحصار مقر عمله من قبل مسلحي بعض القبائل؛ قرر وجدي الأهدل مغادرة اليمن باتجاه العاصمة السورية دمشق.
ردت السلطات اليمنية على مغادرة مؤلف "حمار بين الأغاني"، بتقديم بلاغٍ لـ "الإنتربول" تطالب فيه بالقبض عليه بوصفه مجرمًا فارًا من العدالة. بينما اعتبر وزير العدل اليمني آنذاك، أحمد عبد الله عقبات، أنه لا يوجد ما يبرر مغادرة الأهدل لليمن الذي تتوافر فيه، بحسب تعبيره، حريات كبيرة مكفولة للجميع، ولا يتمتع بها مواطنو الدول الأخرى.
يقول الروائي اليمني في وصف أحواله بعد مغادرة بلاده، والإقامة في دمشق: "يشعر المنفي بعذابات نفسية شديدة، لا يدركها إلا من مر بهذه التجربة ولسعته نيرانها. فوضعه مختلف عن الذي يسعى لمغادرة وطنه طوعيًا". ويضيف مؤلف "أرض المؤامرات السعيدة": "أحد الأمور التي لا أخجل من قولها، إنني فكرت عدة مرات في الانتحار، وذقت لأول مرة في حياتي ذاك الشيء المرعب المسمى "الاكتئاب". امتلأ فمي بطعمه المر الرديء، ووصلت إلى الدرجة "صفر" وفقدت الرغبة في الحياة".
لم تستمر إقامة وجدي الأهدل في سوريا طويلًا، إذ عاد إلى بلاده في كانون الأول/ ديسمبر من عام 2002، بعد توسط الروائي الألماني غونتر غراس (1927 – 2015) لأجله عند الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح، خلال زيارته إلى اليمن لحضور مؤتمر أدبي برفقة 30 أديبًا من ألمانيا والنمسا وسويسرا.
اعتبر البعض أن رواية "قوارب جبلية" ليست سوى محاولة لتشويه صورة اليمن، والإساءة إلى عاداته وتقاليده وقيمه الأصلية
حدث الأمر بعد لقاء غراس، وعددٍ من الأدباء العرب والأجانب، بالرئيس صالح الذي أراد منح صاحب "طبل الصفيح" وسامًا رفيعًا، غير أن الأخير اشترط عودة الأهدل إلى اليمن، وإصدار أمر رئاسي يقضي بالكف عن ملاحقته قضائيًا وتوفير الحماية له، لقبول الوسام. طلب صالح من غراس حينها 10 دقائق للتشاور، وحين عاد إليه، أخبره بموافقته على طلبه، فقبل الروائي الألماني الوسام.
اقرأ/ي أيضًا: أرشيفنا الثقافي: رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان.. حكاية نص غرامي مثير للجدل
وصف وجدي الأهدل خطوة غونتر غراس الحائز على جائزة "نوبل للآداب" لعام 1999 بـ"الموقف الإنساني الذي يعد انتصارًا للأدب والأدباء، ليس في اليمن وحدها، ولكن في كل مكان من العالم يتعرض فيه الكتّاب للاضطهاد". وأضاف: "لقد تحقق لنا نحن الأدباء اليمنيين انتصارًا لا يقدر بثمن على السلطة الشمولية الجبارة".
اقرأ/ي أيضًا:
أرشيفنا الثقافي: رسائل محمود درويش وسميح القاسم
أرشيفنا الثقافي: قصيدة "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة".. نقد الهزيمة العربية