تميّز المشهد السياسي العربي بعودة قويّة لتيارات الهويّة، أو ما يسميّه البعض بالاسلام السياسي، الذي يمتد طرفاه من العدالة والتنمية التركي إلى تنظيم داعش الإرهابي، مع أهمية الفوارق في الشكل والمضمون. كانت هناك مبرّرات موضوعيّة لتنامي ظاهرة "الإسلام السياسي"، وخاصّة صعود بعض القوى الإسلاميّة إلى الحكم إبّان الربيع العربي.
يرجع نمو ظاهرة الإسلام السياسي إلى فشل تيارات الحداثة في الإجابة عن أسئلة الواقع العربي
إنّ أهمّ خلفياّت نمو هذه الظاهرة يتمثّل في فشل تيارات الحداثة في الإجابة عن أسئلة الواقع وتقديم الحلول للمجتمعات العربيّة، ممّا يؤهّلها لحفظ أمنها الشامل وتحقيق كرامتها. كما كان الرصيد الضخم من المظلوميّة التي تمتلكه بعض الحركات الإسلاميّة أهمّ الأسباب في تصعيدها للحكم، فهي التي وقع اضطهادها وقمع مناضليها وحرمان أبناءها من أبسط مقوّمات العيش، ولعلّ انتخابها عبرّ عن حالة من ردّ الجميل لها.
يتميّز الخطاب السياسي الإسلامي بالتوزان بين ما هو أخلاقي وماهو نفعي/مصلحي، إلاّ أنه يحمل جرعات مفرطة من الروحانيات والعاطفة، مثلت الإسمنت التنظيمي الذي جعل جلّ المنتسبين إلى هذا الحقل والمشاركين في هذه المنظومة العلائقيّة مقيّدين بالحميميّة وأسرار القداسة الوجدانيّة/الروحيّة.
لقد ساهمت محن الحركات الإسلاميّة في نحت جزء كبير من ملامحها وكينونتها، ما جعلها صلبة ومعقّدة في نفس الوقت، متماسكة وبيروقراطيّة، ضخمة وبطيئة.. إلخ. يجب التنبيه قبل توغلّنا في التحليل بوجوب التفريق بين الفكر السياسي الإسلامي والوعاء الذي يحوي هذا الفكر. إذ أنه في الوقت الذي يشهد فيه العقل السياسي الإسلامي تطوّرات سريعة على المستوى النظري والتطبيقي، لا تزال أشكال وأوعية هذا العمل تقليديّة ومترهّلة، إلى حدّ أنّها تعطّل أحيانًا الممارسة السياسية التي تستوجب سرعة الآداء وإتقان التنفيذ.
مثّل انتقال بعض الحركات الإسلاميّة من المعارضة السرّية إلى النشاط العلني المعترف به ناهيك عن خوض غمار الحكم، لحظة تاريخيّة في عمرها وسيرورة عملها (نهضة تونس وإخوان مصر نموذجًا). إذ تغيّرت كلّ المعادلات والحسابات السياسية مما يؤثر ضرورة على آليات الفعل والتسيير داخل هذه التنظيمات ونظم تشكّل علاقاتها الداخليّة والخارجيّة. وبالرّغم من التحوّل والتطوّر السياسي الرهيب الذي تعيش على وقعه حركة النهضة مثلًا، فإنّها تشكو أعطابًا على المستوى التنظيمي، تستوجب عمليّات جراحيّة عاجلة، كما تشكو من خمول تنظيمي يحول دون تحويل هذا الجسم إلى وعاء وطني أوسع من أن يكون وعاء شبه طائفي أو قبلي.
يمثّل انفتاح التنظيمات الإسلاميّة على محيطها أمرًا ضروريًا، حتى تتفاعل مع مقتضيات عصرها واستحقاقات واقعها
ومثلما تكمن التحديات السياسية للحركة الإسلاميّة في النّأي بنفسها عن المشاريع الأيديولوجيّة والانتصار لمشروعها عبر تحقيق مكاسب ملموسة على مستوى الدّولة والمجتمع، تستوجب إعداد برامج وخطط اقتصاديّة وتنمويّة واجتماعيّة؛ فإنّ التحدّيات الداخليّة التي تعيشها هذه التنظيمات من ضرورات إعادة البناء على أسس وقواعد العمل الحزبي الوطني، تقتضي جرأة في مواجهة بيروقراطية قاتلة وهيروقراطيّة بعض المجموعات. لن يتمكّن العقل السياسي الاسلامي من التقدّم والإنجاز دون تحديث جهازه التنظيمي، ليتجاوز العقد الكهنوتيّة ومنظومة العلاقات العاطفيّة التي تتراوح بين الهيمنة والتبعيّة.
يمثّل انفتاح التنظيمات الإسلاميّة على محيطها أمرًا ضروريًا حتى تتفاعل مع مقتضيات عصرها واستحقاقات واقعها. ونعني هنا الانفتاح الفكري الذي يجعل الأفكار تتلاقح وتتطوّر، إلى جانب الانفتاح التنظيمي الذي يجعل هذه المؤسسات تعمل تحت قواعد الكفاءة والمسؤوليّة في تحقيق الأهداف المرسومة.
إنّ هذا السعي للتجديد الإسلامي كفيل بنزع فتيل الخصومة مع الآخر، وتمتين العلاقة مع المواطن الذي لا يعبأ بالأيديولوجيا بقدر ما يهتم بخبز يومه، ولا ينظر للإسلام من الناحية السياسية الصرفة بقدر ما يعنيه الجانب الاجتماعي في الإسلام، وهو مايؤكد ضرورة إعادة طرح سؤال الإسلام السياسي في عمق ماهيّته وفي أفق تقدّمه وكيفيّة تصوّره.
اقرأ/ي أيضًا: