في الوقت نفسه، وعلى التوازي من تطور الديانات التي تأسست من هزيمة البشر الأكيدة أمام شبح الموت، كان هنالك بحث دائم عن أسرار الخلود، فنرى ملحمة جلجامش، وهي من أقدم ما وصلنا من موروث بشري، تتبلور حول هذا الموضوع تحديدًا، لتكتشف ما اكتشفه الأدباء والشعراء، الفاشل منهم قبل الناجح، أن الخلود يكمن في تخليد ذكراك، التي تسترجع بعض صيرورتك كأنّها قطعة منك يتم تداولها وحفظها.
ما هي المسافة بين ذلك العالم الروبوتي الذي صنعه البشر والعالم في الخارج؟
إذا أردنا أن نستكشف الآثار في المأثورات البشرية لقضية اقتسام الروح وخزنها في أماكن سرّية طمعًا بالخلود، نجدها مذكورة في الديانة الهندية عند سيرة الإله الشيطان رافانا ملك سريلانكا ذي الرؤوس العشرة، الذي حصل على منحة إلهية بالخلود كانت عبارة عن رحيق حصل عليه من الآلهة براهما، رحيق لم يجد غير كرشه كي يخبئه فيه.
اقرأ/ي أيضًا: في نقد الثورة
تذكّرنا الأسطورة أيضًا بنزعات البشر الغريبة إلى بلورة ديانات تلائم احتياجات الملوك والشعوب وتحاكي النزاعات الحاصلة، فهذا الشيطان رافانا عند الهندوس في الهند الذين كانوا في نزاع مع جزيرة سيلان أو سري لانكا، هو إله يعبد عند أهالي هذه الجزيرة مقطن رأسه ومملكته التي حاربت ممالك الهندوس عبر الممر البحري الضيق الذي يفصلهما.
أما في مسلسل "وست وورلد"، بعد أن ينتج البطل الشرير عالمًا كاملًا يملكه من روبوتات يتم فعل كل الموبقات بها وحتّى قتلها، تكتشف تلك الروبوتات ذوات الذكاء الاصطناعي، أنّها تملك أجسادًا أكثر حصانة من البشر ويمكنها أن تكون النسخة المعدلة عنها.
في ذلك العالم الذي صنعه البشر، تقتبس إحدى الشخصيات مقطعًا من قصة لويس كارول "أليس في بلاد العجائب": "لو كان لي عالمٌ من صنعي، لكان كل شيءٍ عبثيًا، ولا شيء على ما هو عليه، لأن كل شيءٍ سيكون بما هو ليس عليه، والعكس كذلك، ماهيته لن تكون به. وما ليس به، سيصبح كذلك، هل ترى ما أقول؟".
نتمهّل قليلًا لنتخيل عالمًا تُترك لنا فيه حرّية الخلق، كيف سيبدو يا ترى؟ وأي عقلٍ غرائبي خلق هذه المنظومة التي نحيا بها، لتحمل كل هذا العبث وكلّ هذه الفوضى؟ وما هي المسافة بين ذلك العالم الروبوتي الذي صنعه البشر والعالم في الخارج؟ ما السبب الحقيقي وراء كل تلك الغرائز العميقة التي تولّد كل هذا الخراب؟ هل هي شرط أساسي في حفظ الوجود البشري وإبقاء ذلك التحفّز من أجل البقاء؟ أليس بالحقد وحده يحيا الإنسان؟ ولولاه لنفق البشر أفواجًا من الضجر والملل؟
تكون المفاجأة في المسلسل لاحقًا بتبلور عالم إفتراضي يكمن داخل حاسوب ضخم، تُضخّ إليه كل تفاصيل البشر الذين مرّوا، حتى تنتج هناك نوعًا من "الفردوس المفقود" ندخله إلى الأبد بسلام آمنين، نغرق فيه بتفاصيلنا الصغيرة اليومية دون الحاجة إلى الركض في مصيدة الفئران الحياتية التي سنسقط مكاننا فيها يومًا ما، لنجد أننا بعد كل هذا الجهد لم نتقدم قيد أنملة.
أحد محاور قصص هاري بوتر والمؤلفة ج. ك. رولينغ هو موضوع الهوركروكس، حيث يقوم البطل الشرير باقتسام روحه إلى سبع قطع مختلفة، تحمل كل منها مقومات الروح الأصلية، وإذا ما وجدت الجسد الحاضن لاحقًا يمكنها أن تتطور لتستعيد الشخص الأصلي، وذلك تمامًا من باب الاحتياط إذا ما تم القضاء على الجسد، فيمكن استرجاع الروح عبر القطع المخبأة وقولبتها في جسد جديد.
كما ونرى في قصصها أيضًا تلك البدائل البشرية لغير السحرة كي يعوضوا قدراتهم المفقودة، فيخترعون الكهرباء والسيارات والطائرات وغيرها.
إذا أردنا حقًّا أن ندقق النظر في البديل البشري الحديث لهذا الهوركروكس السحري، نكتشف أنها تتجسد في كل تلك المواقع الاجتماعية مثل فيسبوك وتويتر وغيرها، حيث تجذب إليها كل مرة قطعة صغيرة جدًا من كياننا، لنكتشف مع الوقت أن بعضًا من هويتنا قد أصبح ساكنًا فيها، بل ويستطيعون بعد حين أن يعرفوا هواياتنا وموسيقانا والكثير من الأشياء عنا بسهولة، عبر قطع الفسيفساء المعلوماتية التي أسقطناها عندهم.
لا يبدو أثر الهوركروكس باديًا للعيان على الروح الأصلية التي بقيت بالحدّة نفسها عند الشخص الذي قام بها، بينما تتطلب النسخة البشرية جهدًا ووقتًا أكبر تقضيهما منهمكة في هذه البدع الجديدة، حتى تستطيع أن تجبل نسختها المصنّعة عنك، بينما يحتاج الساحر إلى تعويذة واحدة يلقيها تردي غريمه قتيلًا، وبمعيتها يستطيع القيام بتلك القسمة، شخص واحد قام بتلك العملية في عالم السحر، بينما يبدو أننا نسير قطعانًا بشكل جماعي وراء قطع التكنولوجيا تلك التي تقوم بدراستنا سوية حتى تستطيع استبيان الغث من السمين حين تصبح أرواحنا وخياراتنا هي البضاعة التي تكدسها تلك الشركات، فتصبح تلك البضاعة الأثمن والنفط الجديد الذي تكدسه البشرية وتتحلّق حوله.
في عالمنا هذا، تستطيع نسختك الإلكترونية، على العكس من نسخك الجسدية، التناسخ في أقبية الشركات التجارية التي تدرسك جيدًا
أما في عالمنا هذا، فعلى عكس نسختك الجسدية، تستطيع نسخك الإلكترونية التناسخ في أقبية الشركات التجارية التي تدرسك جيدًا، كي تعرف أي إعلانات تسويقية تجد طريقها إلى الأدوات الإلكترونية حولك، كي تزيد ربحها وربح معلنيها، وذلك هو الاستعمال الأقل خطرًا عليك، فتلك النسخ تجد طريقها تلقائيًا إلى أقبية الحكومات، وعلى رأسها وكالة الأمن القومي الأمريكية، حيث تحفظها احترازيًا من أجل يومٍ تستعملها ضدك، كما وتستعملها كي تمرّن برمجياتها ذات الذكاء الاصطناعي التي تحتاج إلى معلومات تتمرن عليها كما تحتاج النار إلى حطب.
اقرأ/ي أيضًا: الإعلام كأداة ابتزاز للديمقراطية
يجعلنا كل ذلك نتوقف قليلًا حائرين حقًا أمام خياراتنا التي لو أتيحت لنا، هل كنّا سنفضل العودة إلى زمنٍ قديم مجهول نعيش قصصًا لن يكتبها أحد ستمر عبر الحشائش الجبلية وتدفن معها بعد ذهابنا؟ أم أنّنا نفضّل وسائل الراحة الحديثة، وكل آليات التواصل وتضخيم الذات عبر تناسخها الذاتي وضخّها في خلايا الحواسيب السيليكونية في مخازن الشركات الكبرى، مجبولة بفقدان الخصوصية التام وتحولّنا إلى مجرد سلع وسطور من تدفق الأرباح عند بعض من يجلسون وراء الكواليس، ويسري مخدّر السطوة والنفوذ في عروقهم بينما يلهون بنا. هل حقًّا نستحق أن نبقى؟
اقرأ/ي أيضًا: