غالبًا ما يسكن تاريخ الشوارع والساحات في اسمها، وللتاريخ في لبنان حقبات عديدة، انطبعت في الذاكرة الشعبية وتحول قسم كبير من الأسماء المرتبطة بها إلى مساحات العامة. فقراءة أسماء الساحات والشوارع والأحياء يحمل في طياته تاريخًا وطنيًا. لكن تبقى المشكلة في كيفية تأطير العلاقات التعددية بين الجماعات في لبنان ضمن الحيز العام تحت سقف الدولة. وكيفية انتقاء المسميات التي تطلق على المساحات العامة.
سليماني يجدد حرب التسميات
ضجت وسائل التواصل الاجتماعي مؤخرًا بمسألة حساسة جدًا وخلافية تمثلت بانتشار صور قاسم سليماني في شوارع وساحات لبنان وتشييد التماثيل التذكارية له وإطلاق اسم الشوارع والساحات باسمه، ما شكل انقسامًا عاموديًا بين اللبنانيين. وليست هذه المرة الأولى التي تحدث هكذا انقسامات بسبب تسمية شوارع وساحات بأسماء قادة وزعماء لكنها جاءت هذه المرة أشد من سابقاتها.
يمكن اعتبار السباق المستمر في إطلاق التسميات على الشوارع والمساحات العامة في لبنان من بين تمثيلات تراجع الدولة أمام الولاءات الخارجية
وبالتزامن مع الذكرى السنوية لاغتيال سليماني في غارة جوية أمريكية بالقرب من مطار بغداد، شيدت بلدية الغبيري في الضاحية الجنوبية لبيروت، معقل حزب الله، تمثالًا لسليماني وقامت بتسمية الشارع بـ"شارع الشهيد الحاج قاسم سليماني". ومن اللافت أن الإجراء تم من قبل هيئة محلية رسمية في الدولة اللبنانية، وهي بلدية الغبيري ضمن حفل رسمي وبحضور عدد من نواب حزب الله وممثلين عن السفارة الإيرانية في لبنان.
اقرأ/ي أيضًا: تسونامي المديونية.. احتمالات الانهيار الاقتصادي ترتفع عالميًا
أسس هذا الحدث لجدل واسع بين اللبنانيين، بين من اعتبره واجبًا لتخليد ذكرى شخص ساعد لبنان، وبين من اعتبره استفزازًا وتدخلًا إيرانيًا في بلادهم، ووصل الأمر ببعض الصحف المحلية إلى اعتبار ما حصل دلالة على خضوع لبنان للانتداب الإيراني ومنافيًا لسيادة الدولة. والمراقب الآتي عبر مطار بيروت، الذي يقع ضمن الضاحية الجنوبية، والذي يعد بوابة الاستقبال الأولى في لبنان والعاصمة بيروت، لا يمكن إلا أن تشد انتباهه صور سليماني والمهندس والخميني وخامنئي.
الوزير السابق أشرف ريفي غرد على تويتر بالقول "تمثال قاسم سليماني يمثل وصاية إيران على لبنان التي دمرت سوريا والعراق واليمن وزرعت الميليشيات. ألم ير من نصبوا التمثال لوحات الجلاء على صخور نهر الكلب، التي أرخت لرحيل المحتلين؟ وصايتكم إلى زوال".
وما لبث أن انتقل التوتر من المنصات الافتراضية إلى الأرض، فأقدم البعض على حرق صور سليماني، ورفعوا صور رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، والرئيس بشير الجميل، حسب ما أظهرت مقاطع فيديو تم تداولها على منصات التواصل الاجتماعي. فيما حذر كثيرون من أن انتقال الغضب إلى الشارع خطير جدًا ويهدد "السلم الأهلي" المتبقي في لبنان. خاصة وأن قضية رفع صور سليماني تزامنت مع ردود فعل سياسية لبنانية رافضة لكلام قائد القوات الجوية في الحرس الثوري الإيراني "علي حاجي زاده"، الذي قال أن "قدرات غزة ولبنان الصاروخية، هي الخط الأمامي لمواجهة إسرائيل".
واعتبر الموالون لإيران في لبنان أن لا حق لمن يسمون شوارع باسم الملك محمد بن سلمان وسلمان بن عبد العزيز وعبد الناصر وصدام حسين ومعمر القذافي، والمندوبين الساميين كالجنرال فوش والجنرال غورو والجنرال اللنبي والجنرال كليمنصو والجنرال كاترو والضابط كولمباني والجنرال ويغان والجنرال ديغول والجنرال سبيرز، وشوارع باسم باريس وفرنسا وجاك شيراك، أن يعترضوا على وضع نصب تذكاري لسليماني، فإما منع الجميع أو السماح للجميع بالتعبير عن ما يراه مناسبًا. فيما انتقد فريق ثالث كلا الطرفين بالقول أن ما فعلوه مع سليماني وغيره من القادة العرب والأجانب وتبجيلهم، لم يفعلوه مع 200 شهيد قتلوا في انفجار مرفأ بيروت.
"فوضى" ذاكرة الشوارع
بعد مرحلة جمال عبد الناصر ومع بداية الاحتلال السوري للبنان بدأت تنتشر رموز نظام الأسد. البداية كانت من تمثال باسل الأسد في شتورة في البقاع سنة 1995، وانتشرت منحوتات أخرى في بعلبك وحلبا وصور وقانا. ثم أزيل العديد منها بعد رحيل الجيش السوري وبقيت "مسلة الأسد" على دوار السفارة الكويتية. وبالاتجاه شمالًا، في طرابلس يمكن ملاحظة انتشار كثيف لصور الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وجابت في عاصمة الشمال مسيرات دعمًا له في العام الفائت.
اقرأ/ي أيضًا: هل سينتعش الاقتصاد العالمي في عام 2021؟
وتختزل أسماء الشوارع والساحات العامة في لبنان، المراحل التاريخية التي مرت على لبنان، لذا فإن هذه الأسماء لطالما كانت نقطة خلاف ثقافي وسياسي بين المكونات اللبنانية متعددة الولاءات. البعض يعتبر هذه الشخصيات استعمارية والبعض يعتبرها ذات رمزية عالية! فخلال الحقبة العثمانية أقرت السلطنة وحدها أسماء الشوارع والساحات في البلاد وطغت المسميات التركية عمومًا عليها. وخلال الانتداب الفرنسي انتشرت أسماء قادة فرنسا في شوارع العاصمة اللبنانية.
بينما في الحرب الأهلية، كانت كل منطقة تطلق أسماء رموزها وقادتها على شوارعها ومساحاتها العامة لدلالة على هوية المنطقة والجهة المسيطرة عليها. في منطقة بيروت الشرقية، هيمنت أسماء قادة الأحزاب والشخصيات والمسميات الدينية المسيحية، وبقيت المسميات المعتمدة في عهد الانتداب الفرنسي. أما في منطقة بيروت الغربية كانت التسميات للرئيس ياسر عرفات وحركة فتح والحركة الوطنية وجمال عبد الناصر وكمال جنبلاط وغيرهم، وكذلك تحضر بكثرة المسميات الدينية في مختلف المناطق اللبنانية.
اقرأ/ي أيضًا: