بت أشتم، لم أنشأ على هذا، بل على تربية مفرطة في مثاليتها، وتهذيبها. لكن صدمتنا مع الواقع الغث، كحاصل الإفراغ الممنهج للمعاني والقيم، كانت مبنية على شعورنا العميق بالعجز؛ والذي كبر مع كدّنا المتفاقم في السعي لتحصيل ما اتضح سرابًا لافحًا.
المنطق هو كل ما ليس يمنيًا، في حدود اﻷصيل والسائد والعملي الناجع هنا
في البداية، كنا نفرغ مشاعر القهر بالشجارات، كبرنا قليلًا وانتقلنا لشتى أنواع السجالات الثقافية والفكرية والدينية وغالبها كانت مشخصنة، ثم السجالات السياسية السفسطائية، في محصلتها وبمفرغها؛ أشبه بصراع الهرة مع ذيلها كما يحدث لتلك المصابة بالوساوس.
اقرأ/ي أيضًا: إيران.. "إمبرياليَّة" الوليّ الفقيه
لقد كنا نضيع الكثير من الوقت، ونشعر بالانتصار في سجالات المنطق، معتزين بقوة جبارة ظننا أنها كافية لتغيّر مجرى التاريخ، لنفاجأ بأن "المنطق" ليس أكثر من منتج فلسفي فاشل، وأن المنطق هو كل ما ليس يمنيًا، في حدود اﻷصيل والسائد والعملي الناجع هنا.
ولفرط سكرتنا بطوباوية الملقن التربوي في البيت والمجتمع "التعزي" الذي تتعارض تضاريس خارطته النفسية المسالمة والمتعايشة مع الخارطة النفسية الانكفائية لدى غالبية المجتمعات اليمنية القبلية والبدوية؛ فقد صرعنا باكتشافنا أن اعتمادنا على المنطق والجدل كمعبر راق ومعاصر عن الصراع الذي يحتكم نهاية لصندوق الانتخابات، لم تكن سوى لعبة إلهائية ساذجة أثملتنا بقوة المنطق لنكتشف أن الواقعي هو منطق القوة الحاسم والحازم.
ثم اتضح لنا أن قوة المنطق بلا قيمة ما لم يدعمها إيمان عميق، وأي إيمان أقوى من ذلك الذي تسخره لك الجيوش المحاربة والخزائن المفتوحة وتقبيل الناس لركبتيك يا ابن رسول الله!
كنا نعتبر أن من لم يربيه الزمن.. تربيه اليمن، ثم رحنا نكتشف أن من رباه الزمن تسوء تربيته في اليمن
اقرأ/ي أيضًا: عدن.. صدمة ما بعد الحرب!
إنها أيقونة رمزية لمذبحة المنطق المستمرة منذ ألف عام في الشمال اليمني، والمتجلية في صراع اﻷقيال واﻷذواء الحميريين "زعماء القبائل" بإرث حضاري أهين ودمر مع حكم اﻷئمة الزيود من الغزاة السلاليين المتخللين كالسوس في بيئة وبنية اليمن، الناهبين المدمرين لحضارته، ماضيه، حاضره ومستقبله وحتى ﻷذوائه وأقياله الذين دجنوهم وأهانوا كبريائهم الحميري القديم.
مع كل الجنون والدعارة العقلية والشعورية والروحية والجنائية والسياسية والقبلية والاجتماعية التي نراها، مع كل ما يستحيل فهمه أو التعبير عنه، مع خبث لم نشهد ولن نشهد له مثيلًا، ومع تهكمنا اليوم من تهكمنا باﻷمس عن أيام كنا نظنها ذروة العناء والمكابدة لنعتبر أن من لم يربيه الزمن.. تربيه اليمن، نكتشف أن من رباه الزمن تسوء تربيته في اليمن.
وهكذا أعزائي يفقد المهذبون واﻷنقياء والعذبة ألسنتهم صوابهم ودماثتهم أمام فحشٍ، لا لغة ولا قاموس بوسعهما وصفه أو الإصطلاح عليه بلفظ، ليصبح الشتم اللغة المبتذلة الوحيدة التي يحتمل أن يفهم اﻵخرون منها أن اليمنيين - وحق جهنم - يعيشون في ماخور قذر وضعهم فيه سابلة التاريخ والجغرافيا.
اقرأ/ي أيضًا: