نحتمي بالصمت لتجنب الإجابة على سؤال الخوف. الإجابات لامتناهية.
كل منا يستيقظ على صباح بلون من ألوان مخاوفه. لا المقاومة تنفع ولا الاستسلام. لا منطق ولا خيال يطوّع انسياب القلق إلى شرايين الأفكار.
الخوف ضيف خارج الزمان والمكان ولا يعنيه جدول أعمالك ولا يلتفت إلى التمايز الفردي
يرتمي الخوف أمامنا، وفعله واضح بما لا يحتمل الإنكار أو المواربة. أما متى؟ فهذا سؤال وحده الخوف يجيبك عنه متى شاء. الإجابة يحملها إليك لحظة حضوره. الخوف ضيف خارج الزمان والمكان ولا يعنيه جدول أعمالك ولا يلتفت إلى التمايز الفردي. لا يهمه إن كنت من الذين يحبون الاستيقاظ باكرًا أو من أولئك الذين يتمسكون بنمط صباحي متماسك لا تخرقه أي شائبة، ولا حتى تململ في الفراش قبل النهوض النشيط. الخوف ساحر الأزمنة وسيد الأمكنة.
اقرأ/ي أيضًا: حديث عابر عن الخوف
أُقفل الباب بعد وداعات الصباح، ألتفت خلفي لأجده مطروحًا أرضًا. أما أنا فيصيبني الجمود في مكاني وقوفًا.
أمرِّرُ يدي على شعري لعلَّ الحلول تنساب معها. ثم أتذكر أن اللمس لا يكفي أحيانًا لبثِّ الاطمئنان في الصدور.
القهوة! احتمال ارتشاف القهوة يعيد إلى جهازي العصبي ذبذبات محفزة. يسري الدم مجددًا، أخف خطوتي سريعًا فوق الخوف متوجهة إلى المطبخ لإعدادها. أسكب الماء وأردد في نفسي: سأضع الفنجان أمامي، سأبعد هاتفي جانبًا، سأترك رائحة البن وطعمه يتفاعلان على أمل أن يجلبا لي شيئًا من سلاسة الحياة وبساطة التفاصيل.
أمسك المحرمة بيدي. أفردها على الكنبة. أمسدها إلى أن تتلاشى كل خطوطها. أرفعها إلى حضني لأعيد ترتيب خطوطها وفق ثنايا جديدة، مرة بهذا الاتجاه، ومرة ثانية بالاتجاه المائل إلى الجهة المعاكسة. طواعية مأمولة. أردد في بالي أغنية وإن سمح لي النعاس قد أهمهم بنغم جملة من جملها.
هكذا كانت أمي تمسد الأفكار التي أرَّقتها ليلا وتوثبت أمام عينيها صباحًا، وتُمايلُ رأسها بأغنية في البال وعلى الشفاه بخفر لا يسمعها إلا من غلَّ بجانبها.
وأَرتَحِل.
وجدان. اسم السيدة التي عرَّفتني على الغناء في العتمة.
ثالوث الخوف والصمت والصوت، رقصة لا تنتهي فيها الدوائر. الصوت في الصمت أقوى، واهتزاز الهواء في الحناجر دافئ يناديه الخوف كلما اشتد البرد من حوله
كان الانتقال من الشارع إلى المنزل في البناية المقطوعة الكهرباء عن شققها، والتي لا يصلها من نوافذ مَناورها أيُّ ضوء من بعد ظهر أيام الشتاء، مشقة تختلف باختلاف الطوابق التي يجب عبورها.
اقرأ/ي أيضًا: الحب في بلاد الخوف
الطابق الأول هو الألطف. يحمل الطابق الثاني توجس النظرات المريبة المتسللة من الشقتين المقابلتين. أما الثالث فهو الحامل لبادرة الراحة وبداية الفرح من الجارتين المستمتعتين بأعمال البيت على وقع كل الأغاني التي تحفِّز الهمة للحركة السريعة. إيقاع راقص وكلمات حب متناثرة. أسمعها في عطلة نهاية الأسبوع أو بعد ظهر الأيام الصافية، وفي الأيام الماطرة أيضًا لكن بهجة العيد المقبل تفرض نفض الغبار عن كل شيء وأولها الصدور الممتلئة حزنًا. أما رحلة التنقل من الطابق الرابع إلى الطابق الخامس والسادس والسابع فكانت مدعاة شقاء لامتناهٍ. ذلك أن اقترابي من الحكاية يزداد مع كل درجة أصعدها.
وجدان، الزوجة والأم لصبيين، التي غرقت في برميل الماء على سطح البناية. وجدان التي قُتلت. وجدان التي أصابتها رصاصة طائشة. وجدان التي انتحرت. خيوط كثيرة نسجت في رأس الطفلة التي كنتُها واكتشفَت حينها أن خزانة الموت واسعة وفيها أثوابٌ كثيرة. يضع الخوف اسم وجدان على شفاهي كلما أردت اجتياز درجات الظلام. أردده وأرخي الألف على مداها، وجدااااااان. بدا اختراق الصوت جدار السواد مطمئنا. ومع كل صعود، أفكر في جواب الموت الذي سألَتْه وجدان. أيُّ حزن لفَّها وأيُّ خوف تملَّكَها. لم أعرف وجدان، بل عرفت كلَّ حكايات خوفها. ظل ذلك الأسرُ قائمًا على حاله إلى أن توسع صوتي في فضاء وبدا الصدى رفيقًا خفيفًا، أخذني إلى الغناء. وصرت أضع قدمي على الدرجة الأولى وأصدح بآخر أغنية سمعتها علقت في بالي. تطور حس انتقاء الأغاني لديّ بالمدى الجديد المكتشف وبتلاعب الصوت والصدى مع ارتجاف الخوف في الحنجرة ولهاثه في الصدر والبطن.
ثالوث الخوف والصمت والصوت، رقصة لا تنتهي فيها الدوائر. الصوت في الصمت أقوى، واهتزاز الهواء في الحناجر دافئ يناديه الخوف كلما اشتد البرد من حوله.
الغناء سلوى المهموم والغاضب. أكبر خالاتي حملت عن جدارة لقب المرأة الحديدية. لم أعهدها تغني، إلى أن سمعتها مرة تدندن أغنية لفريد الأطرش وهي تحرك بيدها مكونات الغذاء في طنجرة كبيرة. أقف إلى جانبها من دون أن يصل نظري إلى ما في داخل هذا الوعاء الكبير الذي أشتم منه الروائح، أراقب من جوع وملل. أتفحص وجهها وتعرقها. لا أعرف ما إذا كان العرق من البخار المتصاعد أم من حر الأيام الأولى من صيف بيروت، أم من هذا الغضب الذي أمسك بحاجبيها وضمهما بقوة لا فكاك منها. سألتها إن كانت تغني من مزاج رائق وسرور خفي. أجابتني: "حينما يكون كل شيء خراب، أُغني".
هكذا هو الغناء بحث عن أمان مفقود، عود نحرِّكُه في الهواء فنخلط به ذبذبات الضياع والشك والوحشة. والخوف يجعل الصوت عذبًا
الغناء وادي الحزن العميق. صوت عمتي ظلَّ يجرح الهواء من حوله بأغنية "بتندم" التي أنكَرْتُها على المغنية وداد. إذ لم أعرف هذه الأغنية إلا بصوت عمتي، بأدائها الذي حمل حكايتها مع الغرام، حكاية أجمل من كلمات الأغنية نفسها. تزمّ شفاهها بكلمات "وحياة عيوني بتندم" فتضم العشق معها وتقول كلَّ ما لا يقال.
اقرأ/ي أيضًا: المخيمات تدبُّ الصوت
كان تغنيها لحبيبها وزوجها الجالس معها كلما بدا أنهما في أصفى أوقات الحب. كلما راق الودُّ كلما نهش في بطنها الخوف من الهجر. فتستبدل القُبَل من شفاهها بأنفاس شوق لم يأتِ أوانُه بعد وتتجسد في لحن شجي.
هكذا هو الغناء بحث عن أمان مفقود، عود نحرِّكُه في الهواء فنخلط به ذبذبات الضياع والشك والوحشة. والخوف يجعل الصوت عذبًا.
اقرأ/ي أيضًا: